معركة التنويريين مع النقليين

شد الحبال
شد الحبال

إذا كانت مفردة التنوير تعني إطلاق العنان للعقل، إيمانا بقدرته على التمييز بين الخير والشر، فإن الحقيقة التي يقفز عنها الكثيرون- ولكل أسبابه- أن حركة التنوير لم تبدأ في أوروبا في العصر الذي عرف بعصر التنوير، بل هي أقدم من ذلك بكثير.
في تاريخنا الإسلامي تحديداً يمكن نسبتها إلى عصر أسبق حتى من عصر المعتزلة، لكنها تبلورت كحركة فكرية متكاملة الأركان مع المعتزلة، فلقد كان المعتزلة يرون العقل قادراً على معرفة الله، بل معرفة الله بالعقل قبل الشرع، ومثلها قدرة العقل على التمييز بين الحسن والقبيح.

لست الآن في معرض السرد التاريخي لأحداث قديمة، إنما فقط أردت القول: بأن المحاولات العقلية ليست طارئة مستحدثة في السياق الإسلامي، وليست مجرد تقليد لحركة مشابهة نشأت في الغرب، ومن ثم يمكن وضعها تحت عنوان "الاستلاب للغرب" أو الافتتان بالمنتصر، كما يزعم بعض رجال الدين عندنا، أبداً ليست المسألة كذلك، ففي تاريخنا فعلاً كانت هناك مدرسة عقلية، ميّز السابقون بينها وبين مدرسة النقل، تارة بتسميتها " مدرسة العقل" وتارة بتسميتها " أهل الرأي" ولقد كان الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله أحد أهم عناوين مدرسة الرأي، أو العقل في التاريخ الإسلامي، رغم أن أتباعه فيما بعد حاولوا نفي هذه الصفة عنه، بعد أن صارت فكرة الرأي أو العقل مشيطنة في التاريخ الإسلامي، وصار الدين- كما قيل في رواية منسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه- لا يؤخذ بالرأي، إنما بالنقل فقط" لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، بل وصار العمل بالرواية الضعيفة أحب، وأفضل من العمل بالرأي، كما روي عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله..!

اقرأ أيضاً: الانتخابات المحلية.."جائزة ترضية" تحمل مستجداً؟

المعركة بين المدرستين معركة تاريخية، قديمة، لكن الغلبة طوال التاريخ كانت لمدرسة النقل، ليس لما انطوت عليه من قوة في الدليل، وإنما بوضوح لأن السلاطين وجدوا فيها أداة مناسبة لتطويع الشعوب، فالمستبدون- يقيناً- لا يرغبون في شعوب تستخدم عقلها، إنما في شعوب تسهل قيادتها، ولا شك أن الدين- بنسخته اللاعقلية- كان أهم أدوات السلاطين لفرض الطاعة، وتحريم المعارضة، فلقد نسب النقليون للنبي عليه السلام قولاً يأمر الناس بطاعة المستبد، حتى وإن سلب مالك، وجلد ظهرك..!

بعد عصر المعتزلة ظهرت عدة محاولات عقلية، كان مصيرها دائما التفسيق، والتكفير، والحكم بالزندقة، والردة، وفتاوى القتل، وكان أخفها وطأة ما تعرض له الفيلسوف ابن رشد الذي نُفاخر به على العالم، دون أن نعترف بأننا لا ننتمي في الحقيقة إلى مدرسته، بل إلى مدرسة خصومه، الذين أمروا بحرق كتبه، ونفيه، ولتبقى- ما نجت من كتبه- مغمورة، حتى أبرزها الغرب، الذي نقلها، وبنى عليها، وأنشأ مدرسته العقلية معتمداً في كثير من مقولاته عليها.

الملفت- وهذا تحديداً هو الغرض من مقالي هذا- أن النقليين، أو التراثيين، لم تكن أدواتهم أبداً للرد على العقليين بالحوار الناضج، وإنما دائماً بالتكفير، والتفسيق، والاتهام بالزندقة، والتحريض الصريح، أو الخفي على العنف، وكانت دائماً مزاعم التكفيريين، المحرضين على العنف تتم باسم الله، وبحجة الدفاع عن دين الله..! حتى أن خالداً القسري لم يجد حرجاً في ذبح الجعد بن درهم في المسجد، وتحت المنبر يوم عيد الأضحى، مخاطباً الناس: ضحوا تقبل الله أضحياتكم، فإني اليوم مضحٍ بالجعد بن درهم..!

لم يواجه الجعد وحده هذا المصير، ولم يكف التكفيريون عن تكفيرهم، تصريحاً، أو تلميحاً، منذ الجعد، وحتى يوم الناس هذا، وإن شئت فاقرأ لأي من النقليين كيف يصف الحركات العقلية المعاصرة، فلن تجد سوى لغة التكفير، وأبداً لن تجد حواراً عقلياً خالياً من التكفير، تصريحاً، أو تلميحاً، كأن يصف رجل الدين حركات التنوير المعاصرة بخصوم الإسلام، وكارهيه، وبالراغبين في تحييد الإسلام عن حياة الناس، وقيمهم، أو بإسقاط آيات قرآنية تتحدث عن الكافرين عليهم، رغم أنني شخصياً لم أقرأ حرفاً واحداً لأي من المنسوبين الحقيقيين لحركات التنوير المعاصرة يدعو فيه لشيء كهذا، بل العكس، فإن جل اهتمامهم يتمحور حول تنقية الدين من غبار التاريخ، وتخليصه من قبضة محتكري فهمه، ممن يزعمون أن الإسلام لا يعرف الكهانة، لكنهم يزعمون في المقابل أن الإسلام ليس في متناول كل أهله لفهمه، وإنما لا بد له من طبقة تفهمه وتبينه للناس، وأنا لا أعرف ما هي الكهانة إن كان احتكار فهم الدين ليس أهم صفاتها، وأنا لا أعرف أيضاً كيف يخاطب الله كل الناس بدين لا يفهمونه، ولا بد لهم من متّبَعِين لفهمه، وأتساءل: ماذا لو كان المُتّبَعون مخطئين، فهل يشفع هذا للمتّبِعِين اتباعهم الأعمى؟ أم سينطبق عليهم ما ذكره القرآن الكريم عن تخلي المتّبَعين عنهم؟

"إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ"

ذات اللغة التكفيرية لم يخل منها لا تاريخنا، ولا تاريخ الأديان.

عن نفسي فلقد باتت نفسي تشمئز عند مشاهدة أي صياغة تكفيرية، صريحة كانت، أو ملتوية، وأجدها امتداداً للفتاوى الظلامية التي حرمتنا من تطوير الحركات العقلية، حتى وصلنا إلى أن بتنا في ذيل قافلة الأمم، وربما حتى خارج حركة تاريخ البشر، حتى وإن شغلنا حيزاً من الجغرافيا.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo