انتفاضة الحجارة

انتفاضة الحجارة
انتفاضة الحجارة

في الثامن من ديسمبر عام 1987م أقدم سائق قاطرة إسرائيلي على صدم مركبة لعمال فلسطينيين، استشهد بعضهم على الفور، جميعهم كانوا من سكان جباليا في قطاع غزة.

كان يمكن لهذه الحادثة أن تمر، لو تم توصيفها كمجرد حادثة مرورية يمكن لها أن تحدث في الظروف العادية، لكن ما بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أن الحادثة لم تكن عرضية عن طريق الخطأ، إنما انتقامية مقصودة، ما جعل منها أشبه بالشرارة التي أوقدت ناراً لم تكن تنتظر سوى شرارة البدء، لتعلن عن نفسها، ولتستمر بعد ذلك لسبع سنين، دون كلل أو ملل.

كان قد مر على ترحيل الفلسطينيين من ديارهم عام 1948م قرابة الأربعين سنة، وعلى احتلال ما تبقى من فلسطين- بما فيها القدس- عشرون سنة، كان الفلسطينيون خلالها قد راهنوا على مسميات كثيرة، جميعها أثبتت عدم قدرتها ليس فقط على تحرير ما تم احتلاله من الأرض، إنما أيضاً على حماية ما تبقى من الوجود الفلسطيني، بغض النظر عن الأسباب التي يمكن تفهّم بعضها لهذا الفشل، لكن المحصلة أن الرهانات كلها لم تُنجز للفلسطينيين ولو الحد الأدنى مما يصبون إليه.

عام 1948م كان الفلسطينيون قد سلموا زمام المواجهة لما قيل أنها جيوش عربية، وكانت النتيجة باختصار أن 78% من فلسطين تم احتلالها مما يسمى إسرائيل، وهم ذاتهم- أي الفلسطينيون- الذين كانوا قد رفضوا قبل عام واحد فقط قرار التقسيم الذي يمنحهم 44% من الأرض، وجدوا أنفسهم فجأة وقد خسروا نصف ما أعطاهم قرار التقسيم، إضافة إلى أكثر من 500 قرية تم تدميرها، وطرد أهلها منها.

بين عامي 1948م و 1967م شهدت المنطقة العربية عدة انقلابات، جميعها تقريباً رفعت شعار تحرير فلسطين، متهمة من سبقها بالخيانة والتواطؤ، مؤكدة أن تحرير فلسطين يقف على رأس سلم أولوياتها، ما أبقى الأمل حياً في أنفس الفلسطينيين، لكن هذا الأمل سرعان ما تعرض لانتكاسة مميتة بعد هزيمة 67م، ثم فيما بعد بخروج مصر من مربع العمل على إزالة أسرائيل بعد انخراطها في عملية سلام معها.

اقرأ أيضاً: العنف في جامعات الضفة.. تصاعد مخيف وأسباب متعددة

قبيل عام 67 وبعدها أخذ الفلسطينيون زمام المبادرة، وأطلقوا العمل المسلح من خلال تشكيل فصائل مقاومة، وجيش تحرير فلسطين، فشهدت الساحة الفلسطينية، ومثلها بعض الساحات المجاورة لفلسطين أعمالاً فدائية بطولية، ساهمت بدورها في إبقاء أمل التحرير، لكن هذه الحالة بدوها ما لبثت أن تم احتواؤها، وتطويقها، فلقد تمت تصفيتها بالكامل من الساحة الأردنية، ثم فيما بعد تم طردها بعيداً عن لبنان، أما سوريا فلم يبق للفلسطينيين أي قدرة على إطلاق أي عمل فدائي من أراضيها، وبهذا لم يتبق للفلسطينيين سوى بعض القدرة على الفعل من داخل الأراض المحتلة، والتي لم تكن مقدراتها العسكرية مؤهلة لخوض حرب تحرير حقيقية، اللهم إلا بعض العمليات المتقطعة التي تثبت تمسك الفلسطينيين بأرضهم، وإصرارهم على مواصلة النضال، حتى ولو بأدوات بسيطة غير قادرة على التحرير.

سقط الرهان إذن على الدول العربية، ثم على الفصائل الفلسطينية المسلحة، دون أن يعني هذا اتهاماً لها بالتقصير، فمن الواضح أن الإرادة الدولية التي كانت- ولا تزال- تقف خلف إسرائيل كانت عازمة على عدم السماح بهزيمة إسرائيل، أو على الأقل إزالتها من الوجود، استجابة للشعارات العربية، والفلسطينية.

في المحصلة، بقي الشعب الفلسطيني وحده في الميدان، ودون أي تسليح حقيقي يمكنه من خوض مواجهة عسكرية مفتوحة مع إسرائيل، إلى أن جاءت حادثة القاطرة عام 1987م، حيث كان الفلسطينيون يدركون حينها أن على الشعب الآن- الذي راهن فيما مضى على الدول العربية، والفصائل الفلسطينية- أن يخوض هو معركته، وبأدواته البسيطة التي تعبر عن رفضه لبقاء الاحتلال، وعن يأسه من البقاء في حالة انتظار ما سيفعله الآخرون، وفي عشية وضحاها انفجر البركان الشعبي الفلسطيني بما تجاوز حدود كل الرهانات على مدى قدرته على الصمود طويلاً، ففاجأ بحق كل المراقبين، والمعنيين، أعداءً كانوا أو محبين.

كانت الانتفاضة إذن تطوراً طبيعياً لمسيرة النضال الفلسطيني، حيث لم تعد هناك جهات من خارج الجماهير قادرة على إحداث تغيير ما في واقع الاحتلال، وكانت إسرائيل قد أثبتت- بدعم العالم لها- قدرتها على كسب المواجهات المباشرة، وعلى هزيمة الجيوش النظامية، ما يعني أن فكرة العودة إلى ذات الطريقة النضالية، ليس فقط لم تكن متوفرة، إنما لم يكن من المتوقع أيضاً أن تؤتي أُكلاً أفضل مما أتته من قبل، فكان لا بد أن يجترح الفلسطينيون طرقاً نضالية تُحيّد نقاط قوة إسرائيل والتي تتمثل في قدراتها العسكرية، حيث لا فائدة لكل ما تملكه إسرائيل من الوسائل القتالية المتطورة في مواجهة فتية لا يملكون سوى الحجارة، تلك الذخيرة التي لا تنفذ، ولا تتناقص، ثم كان لا بد من كشف زيف الرواية الإسرائيلية حول الشعب الفلسطيني، فلقد صار واضحاً أن كل الفلسطينيين- ليس العسكريين منهم، أو الفصائليين وحسب- يرفضون بقاء الحال على ما هو عليه، ويرفضون التعايش مع واقع الاحتلال، وكلهم دون استثناء لا يقبلون بأقل من الحق في تقرير مصيرهم بأنفسهم، وعلى أرضهم، التي ورثوها عن آبائهم منذ آلاف السنين.

اقرأ أيضاً: التسهيلات الإسرائيلية .. سلام اقتصادي برؤية أمريكية مبتورة للحل الفلسطيني

لقد قالت الانتفاضة بوضوح أن الشعب الفلسطيني كله الآن يمارس عملية النضال، وليست أطرافاً معينة، يمكن وصفها بالمعزولة، أو غير ممثلة للشعب الفلسطيني، إنما كل مكونات الشعب الفلسطيني، شباباً، وأطفالاً، وشيوخاً، رجالاً ونساءً، كل من هو فلسطيني صنع لنفسه حيزاّ يشارك من خلاله في عملية النضال ضد الاحتلال، وصار على إسرائيل هذه المرة أن تواجه ملايين الناس، وليس بضعة جنود مسلحين يمكن استهدافهم بإحدى وسائلها القتالية، وفي مواقع ثابتة يسهل عليها اكتشافها، إنما مواجهة من نوع فريد، تغطي مساحة كل فلسطين، وعلى مدار الساعة، حيث لم يبق طفل فلسطيني إلا وتزينت يداه بالحجارة، فصار على إسرائيل أن تواجه شعباً كاملاً، بما لم تتعوده من الوسائل القتالية، وبما ظلت طوال الوقت تزعم أنها لا تحبذ اللجوء إليه في مواجهة العُزّل، لكن هذا ما حدث على الحقيقة، فالشعب كل الشعب يقاتل في الميدان بوسائله الشعبية البسيطة، ولكن المتواصلة التي لا تعرف ما نطلق عليه استراحة المقاتل، في مواجهة جيش كان يروج لنفسه بأنه الأكثر أخلاقية من بين جيوش المنطقة، لتكشف الانتفاضة للعالم أنه الأكثر بشاعة، واستهانة بأرواح الأبرياء، والأكثر سادية، حيث كان يتلذذ بعذابات الأطفال والنساء، والشيوخ.

لقد أسقطت الانتفاضة أهم أقنعة إسرائيل أمام العالم، وأعلنت بما لا يحتمل أي تفسير آخر أن الشعب الفلسطيني سيواصل نضاله إلى أن يحصل على حقوقه، ولو على الأقل تلك التي اعترف له بها العالم.

يمكن القول باختصار:

إن الانتفاضة هي التي أعادت فلسطين وممثليها إلى واجهة الأحداث العالمية، ولولا الانتفاضة ربما لغابت وجوه كثيرة صارت محل تركيز العالم فيما بعد، وربما لنسي العالم شيء اسمه القضية الفلسطينية.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo