اليهود، ضحية أم جلاد؟

اليهود
اليهود

في رواية" الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جيورجيو يتناول الكاتب قصة معاناة اليهود في العهد الفاشي في أوروبا، رغم أن الرواية تبدو ذات أغراض أخرى غير القصة اليهودية، لكن لليهود، ومعاناتهم في العهد الفاشي، حضور كثيف في الرواية، فعلى سبيل المثال تتحدث الرواية عن شاب روماني مسيحي أُغرم بفتاة كان أبوها شديد المراس، غنيّ، لا يمكنه قبول فكرة زواجها من شاب فقير، ما يضطر الفتاة للهرب مع حبيبها الروماني، ثم يتزوجان، ويبنيان لأنفسهما بيتاً منفصلاً يعيشان فيه.

تبدأ القصة اليهودية في الرواية حينما تصدر حكومة رومانيا قراراً بمصادرة اليهود، ليس أملاكهم، وأموالهم وحسب، إنما أشخاصهم، حيث يساقون للعمل كعبيد- تقريباً- في المواقع العسكرية لحفر الخنادق، أو في غيرها من الأماكن التي تحددها الدولة، في هذه الأثناء يرغب رئيس الدرك في الحي الذي يسكن فيه الشاب الروماني بزوجته، وراح يراودها عن نفسها، لكنها تأبى أن تُسلم له نفسها، فيلجأ رئيس الدرك إلى حيلة للتخلص من زوجها، فيقبض عليه مع يهودي آخر يسكن الحي ويرسله إلى العمل في الخنادق حيث اليهود المصادرين، بعد أن استصدر قراراً بمصادرته أيضاً كيهودي، أو كشخص غير مرغوب فيه، ومن ثم تبدأ محاولات الشاب الروماني المسيحي في إثبات كونه مسيحياً وليس يهودياً، لكنه لا يجد ما يثبت به صحة زعمه.

اقرأ أيضاً:  تجاوزات صندوق "وقفة عز".. شفافية غائبة وأدوات رقابية ضعيفة

اللافت، وهو الشاهد الذي أريد التوقف عنده، أن محاولة الشاب الروماني لتجريم مصادرته، وأخذه للعمل في حفر الخنادق كعبد، لا تعتمد على تجريم مصادرة البشر كفكرة غير أخلاقية من الأساس، إنما لأنه غير يهودي وحسب، حتى ضباط المواقع الرومانية كانوا يتحدثون عن الفعل كجريمة أخلاقية فقط إن كان بالفعل غير يهودي، أما إن كان يهودياً فهو إجراء قومي لا غبار عليه، بل ليس فيه ما يخدش الأخلاق حتى يشعر أحدهم بالعار لمصادرة إنسان، وسوقه للعمل كعبد.

ليس الضباط الرومانيون وحسب، حتى كاهن كنيسة الحي الذي كان يسكنه الشاب الروماني المسيحي، وابنه الروائي، الأديب، واللذان لم يتركا باباً إلا وطرقاه لإنقاذه كانت حجتهم فقط، إنه غير يهودي، لم يكن الكاهن، ولا الأديب يناقشان مع كل من حاولا التوسط معهما فكرة رفض مبدأ مصادرة البشر، أياً كانت دياناتهم، وقومياتهم، إنما فقط إثبات أنه مسيحي، بينما لا مانع من مصادرة اليهود، طالما أن قوانين القومية التي أقرتها الدول الفاشية تسمح بذلك.

لم تكن فكرة القومية العنصرية فكرة مرفوضة حتى لدى شعوب تلك الدول في حينه، لكن، هل كانت مرفوضة لدى اليهود أنفسهم الذين دفعوا ثمن هذه العنصرية؟

ليس هناك أدنى شك أن مقولات اليهودية كانت عنصرية أيضاً، حيث يعتبر اليهود أنفسهم شعب الله المختار، الذين اختارهم دون غيرهم ليكونوا سادة الأرض، بينما خلق الله لهم" الجويم" ليعملوا عبيداً لديهم، ما يعني أن الحقيقة أنهم ذُبحوا بسيف ما يؤمنون به،،، صحيح أن الدين، والعرق كانا عاملاً من عوامل التمييز بين البشر طوال قرون طويلة ماضية، حتى داخل المجتمعات الإسلامية كان الدين والمذهب سبباً من أسباب التمييز بين سكان الدولة الواحدة، فالشيعة والسنة مثلاً لا يزالا حتى يومنا هذا غير قادرين على تجاوز أزمة المذهب، والعيش معاً كمواطنين متساويين، إلا إن خضعا لدولة قمعية لا تعترف لهم برغبة التميّز التي تشعر بها كل جهة تجاه الأخرى، أما الطوائف قليلة العدد كالدروز والعلوية مثلاً فلقد ظلت في حالة صراع مع محيطها للحفاظ على النوع، اليهود أيضاً كأقلية عالمية ظلوا يشعرون بالعزلة في كل أماكن تواجدهم، وعززوا عزلتهم بمقولات دينية عنصرية تضمن لهم نقاء النوع، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن اليهودي ليس هو ذاك الشخص الذي اختار الدين اليهودي برضى منه، إنما يشترط أن يكون مولوداً من أم يهودية، ما يعني أن الدين تحول إلى ما يشبه العرق، وليس ما يختاره الناس كوسيلة للتقرب إلى الله، بغض النظر عن أصولهم، أو خلفياتهم الدينية، أو العرقية.

في أوروبا، وفي الدول التي عرفت النظام الفاشي على وجه التحديد دفع اليهود ثمن العنصرية، سواء عنصرية الدول الفاشية، أو عنصرية اليهودية التي حالت دون اندماجهم في تلك الدول، وتعرضوا بالفعل في بعض الدول إلى محاولة اجتثاث، وإبادة، وكان من المتوقع أن من ذاق مرارة العنصرية أن يحاول التخلص منها، لكن هل فعل اليهود ذلك؟

للأسف، تاجرت الحركة الصهيونية بمعاناة اليهود، وضخمت من مقولات العنصرية اليهودية ذاتها، إضافة إلى المقولات التي تعزز الشعور بالمظلومية، والتي استخدمتها الحركة الصهيونية لتحريض اليهود للقدوم إلى فلسطين، ليس رغبة في البحث عن مأوى آمن وحسب، إنما لتأسيس كيان قائم على ذات الأسس العنصرية التي ذُبحوا تحت عنوانها في الدول الفاشية، وإلا فماذا يعني أن تصر إسرائيل على مبدأ يهودية الدولة؟

إن إسرائيل تسعى للعب ذات الدور الذي لعبته الدول الفاشية مع اليهود في حينه، فكما حاولت تلك الدول اجتثاث اليهود بكل السبل، كالطرد، والقتل، والسجن، بنت إسرائيل نفسها على أنقاض غير اليهود الذين طردتهم من أرضهم، ولا تزال ترفض الاعتراف لهم بحقهم في العودة إلى أرضهم، حتى ولو اعترفوا لها كدولة بالسيادة، لأنها باختصار تصر على أن تبقى الدولة مملوكة لليهود دون غيرهم، حتى غير اليهود من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم، وضمتهم إسرائيل إلى دولتها حتى اللحظة تتعامل معهم بحظر شديد، ولا تساوي بينهم وبين اليهود في الحقوق والواجبات، هذا ناهيك عن محاولاتها المستميتة للتخلص من الفلسطينيين، أو غير اليهود في الأراضي التي تحاول ضمها إلى إسرائيل، ومؤخراً صارت تشترط على المفاوضين الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة قبل الشروع في أي مفوضات؟

مرة أخرى:

ماذا تعني يهودية الدولة؟ وما الفرق بينها وبين الدولة الفاشية التي حاولت التخلص من اليهود لمجرد أنهم يهود؟
طوال التاريخ العربي والإسلامي لم يتعرض اليهود إلى مذابح على يد العرب والمسلمين لأنهم يهود، بل العكس، فعلى سبيل المثال، عندما سقطت الأندلس، وبدأت ما عرف في حينه بمحاكم التفتيش تبحث عن اليهود، ثم المسلمين فيما بعد، لم يجد يهود الأندلس مكاناً أكثر أمناً من الدول الإسلامية، والتي لجأوا إليها، ولا يزالون منذ ذلك الحين متواجدين فيها، وتحديداً دول شمال أفريقيا العربية، كتونس، والمغرب.

يحق للكتاب أن يتعاطفوا مع مأساة اليهود في الدول الفاشية، لكن أولاً: دون أن يتجاهلوا طبيعة المقولات العنصرية في الثقافة اليهودية أيضاً حتى في تلك الحقبة السوداء من التاريخ الأوروبي، ثم ثانياً: ألا يتجاهلوا طبيعة الدولة التي تسعى إسرائيل لترسيخ وجودها، والتي لا تختلف في مقولاتها العنصرية عن الدول الفاشية، حيث تصر على التميز بين الناس على أساس العرق والدين، ثم ثالثاً أيضاً: من المعيب على الضمير الأوروبي أن يسعى لتطبيب الجرح اليهودي الذي صنعوه هم، بخلق جرح آخر، لأناس آخرين، لم يكونوا شركاء في المأساة اليهودية في أوروبا، بل العكس، فبينما كان اليهود يُذبحون في أوروبا، كانوا يتمتعون بالأمن والأمان في أوساط الشعب الذي اقتلعوه من أرضه فيما بعد.

كان اليهود ضحية في أوروبا الفاشية، ليس فقط للفاشية الأوروبية، إنما أيضاً ضحية للمقولات العنصرية اليهودية التي منعت اندماجهم في الدول التي عاشوا فيها، ثم تحولوا إلى جلاد يسعى لتقليد جلاده، واستخدام ذات أدواته، ولكن في حق شعب لم يؤذهم، ولم يتوان في مد يد العون لهم، واحتضانهم، بينما كان الآخرون يذبحونهم.

هذا هو الوجه الحقيقي لإسرائيل الذي علينا أن نكشف عنه لثام المقولات المخادعة التي تتستر بها إسرائيل، فهي ليست واحة للديمقراطية، إنما واحة للعنصرية، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال تصر على أن المواطنة فيها حكر على أتباع دين معين، حتى لو لم تطأ أقدام بعض أتباع هذا الدين الأرض التي تقيم عليها إسرائيل دولتها، فهم مواطنون لأنهم يهود، بينما غير اليهود ليسوا مواطنين لأنهم ليسوا يهود وحسب، حتى لو كانوا من سكان الأرض الأصليين، الذين سبق وجودهم وجود إسرائيل بآلاف السنين.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo