تقرير التعصب التنظيمي بفلسطين.. كيف كبح دور المثقف الناقد الموضوعي؟

التعصب الموضوعي
التعصب الموضوعي

لطالما لعبت الكلمة الحرة والموضوعية، المتبنية للقضايا الإنسانية العادلة ببعديها الوطني والشعبي، دوراً فاعلاً في صياغة المتغيرات السياسية والمجتمعية كافة، وهنا نتحدث عن مسؤولية المثقف "كاتباً، أديبا،ً محللاً، أو صحفياً.." في حفر الوعي الشعبي وفي تقويم اعوجاج النظام الحاكم سعياً للارتقاء المجتمعي.

وفي الحالة الفلسطينية خصوصاً، مارس المثقف الثوري منذ بزوع فجر الثورة، مسؤوليته وبوعي في الدفاع عن قضاياه الوطنية العادلة وتقديمها للعالم ببعدها الإنساني وبكل موضوعية، غايته في ذلك الحرية لفلسطين.

هذا الدور الطليعي الذي مارسه المثقف لم يعد خلال السنوات الأخيرة كما كان سابقا، حيث برزت مجموعة من المتغيرات المتردية على الصعيدين العربي والفلسطيني، يقف على رأسها حالة التشرذم السياسي، وطغيان الانتماء الحزبي على حساب الوطني والإنساني، واقع كان المثقف الفلسطيني أبرز ضحاياه.

خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تجسدت الوحدة العضوية بين المستوى الثقافي، والحركة الوطنية، ولمعت في تلك الحقبة منارات ثقافية وطنية منها، المؤرخ أنيس صايغ، د.هشام شرابي، المؤرخ وليد الخالدي، ولا نغفل حافر القضية الفلسطينية برسوماته، ناجي العلي، وما شكله "حنظلة" من حالة ثورية ألهمت وألهبت العالم نحو فلسطين، وفي المقابل وقفت كما "الحنظل" في حلوق من تهافتوا حول "السلام".

ناجي العلي المثقف المشتبك الأبرز على الساحة الفلسطينية والعربية -بلا مبالغة-، شكلت رسوماته الكاريكاتيرية وقودا لحالة الرفض والتمرد ضد التبعية للاحتلال وقوى الاستعمار، وأُجهز على مشروعه الفني الثوري باغتياله عام 1987.

هشام شرابي المفكر اليافاوي الذي عاش ومات مشرداً عن وطنه، مؤسس "صندوق القدس" عام 1990، ومركز الدراسات الفلسطينية في واشنطن، والذي حمل فلسطين معه نحو العالم، كان من أهم المنظرين لمؤتمر حق العودة وتقرير المصير بعد اتفاق أوسلو.

اقرأ أيضاً: الفاقد التعليمي.. بين ضعف التعليم البديل وعلاج بحاجة للتكاملية والدعم

ورغم أنه كان مؤيداً لخيار حل الدولتين اتهم القيادة الفلسطينية بأنها على درجة الصفر في مجابهة القدرات الإسرائيلية، وبأنها لا تعرف ما الذي يحدث حولها، ما وضعه في صفاف المرفوضين، ولم يعد دوره مطلوباً من قبل قيادة السلطة الفلسطينية.

أما المؤرخ أنيس صايغ، عرّاب مشروع "الموسوعة الفلسطينية" ومجلة "شؤون فلسطينية"، ومدير مركز الأبحاث الفلسطينية، والذي حاول الاحتلال الإسرائيلي اغتياله أكثر من مرة، لم يتوان في عن نقد السلطة ممثلة بالرئيس الراحل ياسر عرفات، فهو صاحب المقولة الشهيرة التي لخّص فيها تعاطي المستوى السياسي مع المثقف الثوري: "لا بد من شطب النضال الثقافي لتحقيق الاستسلام السياسي".

في كتابه "السيرة الذاتية" انتقد صايغ الرئيس عرفات، بعدما شكّل في مسيرته النقيض للمثقف السلطوي وعدم انجرافه للارتهان والامتثال للسلطة، دافعاً ضريبة ذلك وهذا ما يفسر ببساطة وفاة مؤرخنا في شقة مستأجرة.

هامات ثقافية كان الوطن ومصلحته بوصلتها، غابت عن ساحتنا في القرن الراهن، في ظل جملة من المتغيرات، بات فيها المثقف أداة طيّعة للسلطة الحاكمة أو بوقاً للتنظيم الحزبي.

تراجع الحالة الوطنية الجامعة

وفي ذلك يرى المفكر الفلسطيني، وزير الثقافة الأسبق د. إبراهيم أبراش، أن غياب المثقف لا يقتصر على الحالة الفلسطينية فقط، بل على هو حاضر في الحالة العربية، حيث نلاحظ "غياب المثقف المؤثر والحالة الفكرية تراجعت مع تراجع المنظومات الفكرية الكبرى، وتمدد الفكر السياسي الإسلامي".

وأضاف في حديث لموقع "زوايا": "في الحالة الفلسطينية، تراجع دور المثقف له علاقة بالتراجع في الحالة الوطنية الجامعة، حيث كان المثقفون موحدين وفاعلين في ظل حالة نضالية قتالية توحد الجميع، وكان كل مثقف ينتمي لقضية وحالة وطنية وله مرجعية وطنية جامعة".

وتابع أبراش: "في ظل تراجع الحالة النضالية بعد اتفاقية أوسلو وفي ظل الانقسام الفلسطيني تراجعت الحالة الفكرية والثقافية، وأصبح هناك حالة من الإحباط لدى عدد كبير من المثقفين، ومن بقي صامداً أصبح متأثراً بحالة الانقسام".

ويقول وزير الثقافة الأسبق: "أصبحنا نتحدث عن مثقفين لحركة فتح، وآخرين لحركة حماس، ومثلهم ينتمون للجبهة الشعبية.. إلخ، وبالإضافة إلى ذلك، أصبح جزء كبير من المثقفين مرتهنين بمصدر رزقهم خاصة من يتلقى رواتب من السلطة الفلسطينية، أو من حركة حماس، أو من تنظيمات معينة (...) وكل ذلك أضعف من تأثير المثقف المناضل".

وحول ما إذا كان لغياب احترام حرية الرأي والتعبير، أثر على غياب دور المثقف، قال أبراش: "نعم هذا الشيء يلعب دوراً ولكن ليس العامل الأساسي بل حالة الإحباط والإحساس بأنه لا جدوى من التأثير الثقافي، بل الذي يؤثر هو من يحمل السلاح أو الأموال".

وجود المحاور في المنطقة

لم تبتعد رؤية الروائي، د. أحمد رفيق عوض عمّا أورده د. أبراش، بأن دو المثقف المعروف في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قد تغير تماماً، فقد كان أكثر استقلالية، وكان له قدرة أكثر على التأثير لأسباب مختلفة.

رفيق عوض عدّد في حديث لـ "زوايا" أسباب تلاشي دور المثقف الموضوعي، وقال: "كان في الماضي هناك موجة ثورية عالية، يشتبك من خلالها المثقف بالمعنى التقدمي والتنويري والنهضوي، أما في الوقت الحالي تجد جهات كثيرة تقوم بتجنيد هذا المثقف لمصالحها، لذلك تغير موقعه وتأثيره أيضا".

وتابع: "من خلال الحزبية في فلسطين تم ضرب المثقف وتوظيفه ثم تأطيره، إما بالضغط أو بالإغراء أو كليهما"، مشيراً إلى أن أسباب الاستقطاب الحزبي "مختلفة،" وأولها "وجود المحاور والمصالح في المنطقة".

وأضاف، إن "التحزب السياسي عمليا يشبه التحزب القبائلي، وبالتالي تغير موقع المثقف بسبب تغيرات في المنطقة، اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، يتوازى معها انهيار فكرة الدولة، وصعود فكرة الحزب والفصيل، بسبب نظامنا السياسي".

وشدّد رفيق عوض على أن الفصيل هو البديل الذي يقوم بالتوظيف والحماية، لذلك "الحزب تأثيره أشد وبالتالي المثقف بالمعنى النهضوي والتنويري "لم يعد موجودا".

وأردف: "المثقفون والحركات المناهضة للانقسام والحركات المستقلة والشبابية تم إجهاضها بالقوة في غزة والضفة بسبب سيطرة الحزب"، متطرقا إلى مشكلة أكبر مع تقدم التكنولوجيا، وهي أن الأجيال الحالية مختلفة بشكل كبير عن الأجيال السابقة.

ويقول إن الأجيال الحالية يصب اهتمامها على تكنولوجيا الاتصال الجديدة، وظهور ما يسمى "اليوتيوبرز" وغيرهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى هؤلاء تم استخدامهم بطريقة سلبية، وبذلك هناك جيل جديد من المؤثرين ولكن بشكل آخر.

طغيان الفئوية الحزبية

من جهته، يعتقد وليد العوض، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، بأن المثقف الفلسطيني الذي كان مؤثراً ورافعاً من روافع العمل النضالي الفلسطيني، "تعرض لمحاولة تهميش وعمليات إقصاء أدت إلى استبعاده من دائرة التأثير".

ويقول في تصريح لـ "زوايا": "إن غياب المثقف المباشر المهتم بقضايا شعبه والتحرر الوطني، أدّى إلى طغيان الفئوية الحزبية على نمط تفكير القوى السياسية، بعيداً عن إحكام العقل في معالجة الكثير من القضايا".

وحمّل عوض مسؤولة تراجع دور المثقف إلى الأحزاب والمثقف نفسه، موضحاً: "هناك مسؤولية مزدوجة الأولى تقع على ذات الأحزاب التي لم تحترم مكانة المثقف، وأيضا المثقف يتحمل المسؤولة بنفسه، حيث لم يكن لديه نفس طويل في هذا المجال".

ويؤكد عضو المكتب السياسي لحزب الشعب، بأن الفصائل تشكل بيئة طاردة للمثقفين ببعدهم العلمي والثقافي، فمنهم من تنحى جانباً أو هاجر خارج البلاد، مشدداً على أن المثقفين يجب أن يعودوا عن هذا الاستنكاف، ويجب أن يعرفوا بأن دورهم مهم في المجتمع.

اشتباك المثقف بالمتطرف الديني

بدوره تحدث الكاتب والأديب، محمود جودة لـ "زوايا" عن غياب وتلاشي المثقف الموضوعي في ظل الحزبية المفرطة في المجتمع الفلسطيني، مشيراَ إلى أنه لطالما كان للمثقف دوره الميداني منذ عشرات السنين.

واستدرك: "لكن بعدما جاءت السلطة وما تلا ذلك من أحداث أبرزها انتفاضة الأقصى عام 2000، حدث انحدار لدور المثقف وغيابه عن المشهد السياسي بصورة شبه ممنهجة".

وأضاف جودة، إن غياب المثقف الفلسطيني سواء كان كاتباً أو شاعراً أو مؤثراً، لا يقتصر على الساحة الفلسطينية، ولكن على الساحة العربية حيث يلاحظ غياب المثقف العربي، ويعود ذلك إلى أن السياسي لا يرغب بالمثقف ووجوده وصوته.

وختم بالقول: "إما يتم إلهاء المثقف بقضايا ليست لها علاقة بالأمور الفرعية أو ضربه بالمتطرف الديني، وفي هذه الحالة يشتبك المثقف بالمتطرف الديني، ويبقى السياسي هو المسيطر".

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo