غسان كنفاني على ميدان المنارة

عمر نزال
عمر نزال

لم يترك غسان شأناً الا وكتب عنه او حوله، كتب بمضامين تصلح لكل زمان ومكان، لذا كانت مقولاته التي استخرجها من كتاباته كل من قرأ له، وكأنها تصف واقع اليوم، وتحرض على الغد الذي سيكون، فما كتبه الشهيد في الأدب والصحافة يرسخ في اذهاننا لنستخرجه ونحاكي فيه مرحلة ما أو حدث معين.

الأسابيع المنقضية التي كانت زاخرة بالعتلات والهروات، والتي تصادفت مع الذكرى التاسعة والأربعين لرحيل كنفاني، استوقفتني عند ثلاث من بين مئات المقولات التي رسمها غسان.

أولها، عندما أجاب غسان عن سؤال صفية عن الوطن فقال " الوطن هو الا يحدث هذا كله "، الوطن هو ان لا يقتل نزار بنات لأنه عبر عن رايه، وان لا يقتل على يد ابناء جلدته، والوطن هو الا تسحل الصحفيات في الشوارع، وهو الا يفج رأس شاب بحجر أمام محله، وهو الا يقبض البوليس على قادة بعمر النكبة والقضية، وان لا يضاف الى سيرتهم النضالية اعتقال آخر لأنهم قابضون على ضمائرهم، الوطن هو الا يضرب عقيل عوواده على قلبه الذي يخبئ داخله حباً كبيراً للبلاد واهلها، الوطن هو الا تستعيد ميس ابو غوش ذاكرتها في زنازين المسكوبية وهي تسحل وتضرب داخل مركز الشرطة. الوطن يا صفية هو الا يحدث هذا كله.

وثانيها، تساؤل غسان لابطال روايته رجال في الشمس، أسعد ومروان وأبو القيس، "لماذا لم تدقوا جدران الخزان"، لماذا سلمتم امركم الى المخصي ابو الخيزران، الذي كان كل همه جمع المزيد من الفلوس حتى على حساب ارواح الناس، لماذا لم تتمردوا على الألم والضيق، وعلى الموت، لماذا لم ترفعوا صوتكم عالياً، لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

وثالثها، ما اتخذه غسان شعاراً لمجلة الهدف التي اسسها وادارها، " الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"، وهي المقولة التي تعكس رؤيته بضرورة المكاشفة وحق الجماهير بالمعرفة الكاملة لكل ما يجري، وهي أشبه بالدعوة للجنة تحقيق مستقلة تكشف كل تفاصيل وخفايا جريمة اغتيال الشهيد نزار بنات، واشبه بالدعوة لتحقيق يكشف عن كل المسؤلين عن قمع المتظاهرين، ومنفذي عمليات السحل والضرب، وأشبه بالدعوة للكشف عن هويات منفذي الاعتداءات بالزي المدني على الصحفيات وملاحقتهن وسرقة هواتفهن.

لو كان غسان حياً لكان أول المتواجدين على ميدان المنارة، فهو الثوري الذي يتعايش مع القهر والظلم، وهو المناضل الذي يعرف ماذا يعني الوطن، وماذا يعني ان تكون وطنياً محباً لفلسطين وباحثاً عن حريتها.

فغسان يعرف ان الذي أضاع فلسطين هم من " يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها".

لو كان غسان حياً لكان أول الداعين الى دق جدران الخزان، بل لكان دق بقبضاته على الخزان وأسمع الدنيا رنين صوته، وآثر الصراخ والمواجهة على كتمان أنفاسه والتصنم حتى يأتي الموت، ولكان قال لمن يقف بجانبه " عليك أن تبني في نفسك رجلاً لا يحتاج في اليوم الصعب الى ملجأ".

فغسان يعرف ان الشمس لا توجد في غرف مغلقة، " وانك اذا اردت ان تحصل على شيء ما، فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك".

ولو كان غسان حياً لكان أول الصحفيين المتواجدين فوق اسود المنارة، باحثاً عن الحقيقة كلها، كاشفاً اياها للجماهير لانه يدرك انه " من شعب يشتعل حباً، ويزهز بأوسمة الاقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ولن أدع احداً يسلبني حقي في صدقي"، ولكان غسان قد كتب " قد لا يكون الموت بتوقف النبض فقط، فالانتظار موت، والملل موت، وظلمة المستقبل المجهول موت".

وما كان لغسان ان يختم ما كتبه سوى باستنتاجه المدوي " الانسان في نهاية الأمر، قضية".

بقلم: عمر نزال

المصدر : خاص زوايا
atyaf logo