"اجهز لكابوسك مش أمنياتك، عشان لو خير تفرح بكل طاقتك، ولو مصيبة ما متنهارش"
عندما تقرأ للكاتب أحمد مدحت، تشعر بأنه يكتب لك، يُخاطبك على انفراد في لحظة تهمك، لقد برع الكاتب الشاب في الولوج إلى غوائر النفس شارحًا لفرحها وحزنها وأغلب انفعالاتها، وناصحًا بما يستطيع من لهجة مصرية سهلة نعرفها نحن أهل فلسطين من كثرة ما تابعنا من أفلام ومسرحيات ونكات مصرية، ومن كثرة ما تعلقنا بهواء تلك البلاد وروحها.
كل شخص قرأ لأحمد عاش معه قصته الخاصة، وتبادل مقالاته ومنشوراته مع صديق، أو أب، أو أم، أو حبيبة، لقد كان ظريفًا جدًا، يبتسم بفم عذب، كالنسمات تمامًا يبعث لطفه على وجوه من يلقاهم، ولكننا لم نكن نعلم ما خلف تلك الابتسامة من أشياء لطالما حذرنا منها أحمد، ونصحنا بأن نكون أقوى منها، كان لسان حال الجميع وهو الذي عرّف بنفسه كاتبًا :"أكتب ما لا يعرف الناس عن أنفسهم ولا يبحون به" لقد كانت صفحة أحمد على الفيس بوك نافذة أمل لكل من ينظر منها وإليها.
أحمد صاحب "حكايات الحب والشقا" في كتابه "بسكاليا" الكتاب الذي انتظرته طويلًا لأتعرف على الإسكندرية من نظّارة أحمد مدحت الكبيرة، كنت قد تابعت أحمد منذ بداياته عندما بدأت بكتابة رواية "الطريق إلى القاهرة" وأنا الذي لم أدخل مصر، سوى مُرحّل عبر مطار القاهرة إلى غربة جديدة، حاولت أن أقتفى أثر كتاباته كي أتعرف على الناس هناك، وكيف يشربون الشاي، ويتزاحمون في محطة الرمل، رمسيس – سيدي جابر، وغيرها، فربما ساعدني هذا الأمر في إخراج قصص روايتي بما يقارب الحقيقية، تلك الحقيقة التي أعددتُ لأن أجالسها وجه لوجه خلال أيام وقد عزمت على السفر طامعًا في دخول مصر هذه المرّة دون ترحيل، كي ألتقي بأحمد وأُهديه كتبي الثلاثة كما وعدت، في معرض الكتاب المزمع عقده آخر يونيو الحالي، لكن أحمد غادر بسرعة رهيبة، وبقيت الكتب لتكون سبيلًا عن روحه، وهو المأخوذ بروح الكاتب أحمد خالد توفيق وقد شاببه في الاسم والرحيل وحب الناس!
كتب أحمد على صدر غلاف كتابه (بسكاليا)
"هذه الحكايات لمن اعتادوا السهر ليلا دون سبب واضح في معظم الأحيان، من يعشقون مرارة القهوة، وصوت فيروز، وعذوبة مواويل أحمد عدوية، دون أن يتفاخروا بهذا في العلن، لأنها أشياء تخصهم وحدهم، من يهوون التعلق بالأشياء والكتب ومقاطع الموسيقى والصور لأنها لن تتركهم فجأة وترحل كما فعل معهم غيرهم من البشر، هذه الحكايات تناسب من يهوون أم كلثوم ولا يعرفون لهذا سببًا محددا سوى أنها أم كلثوم أو ربما لأن هذا الشجن الصادق الساكن في حنجرتها لا يمكن تجاهله. حكايات من "يقضون الليل بين الأمل والذكرى" ومن تهتز قلوبا شغفًا بصحبة "كيفك أنت؟" ويصاحبون صوت عدوية ومن يشدو يا قلبي صبرك على اللي راح ولا جاشي، هذه حكايات لمن يحلمون قلوبا مثقلة في صدورهم وعندما تسألهم عن أحوالهم يكتفون بهزة رأس مصحوبة بابتسامة خفيفة ولسان ينطق الحمد لله".
الكثير من قصص الحب كان أحمد سببًا فيها، كان حاضرًا في وجع الناس الانفرادي، كان يكشفهم أمام أنفسهم في ساعات الليل، يضعهم أمام اختياراتهم التي يحاولون غض الطرف عنها.
في تاريخ العشرين من مايو الماضي، مات الفنان سمير غان بفايروس كورونا، فنعاه أحمد مدحت قائلًا :"من وأنا صغير وأنا مبقدرش أفكر ولا أتعامل مع الراجل ده إنه مُجرد فنان، أو شخص غريب بيطلع في التليفزيون وخلاص، رصيد الذكريات والضحك واللُطف خلّاني أحسه إنسان أعرفه؛ كفاية أنه خفف عني كتير أوقات كآبة وحُزن من غير ما يعرفني، رصيد كبير من المحبة بناه لروحه جوانا عن استحقاق، من غير ما يحتاج أي مجهود غير أنه يكون نَفْسه ..."
اليوم الثامن من يونيو، وقبل اثني عشر يومًا من ذكرى ميلاده السادس والعشرين يودعنا الكاتب الروائي أحمد مدحت بعد تسعة عشر يومًا فقط من وداعه للفنان سمير غانم، وبنفس سبب الوفاة أيضًا، ونقول له نفس ما قاله هو في وداع الفنان غانم: حديثك، لطفك، حنوك على قرائك، حضورك الدائم في المخيلة وفي المواقف الحلوة والصعبة، وقع كلماتك التي كانت بلسم يطبب وجع الكثيرين دون أن يعرفوك ستتخلد في ذاكرة أحبابك الذين لم تعرفهم أنت، لكنهم فازوا أنهم يومًا عرفوك.
المجد والخلود يا أحمد، فالكلمة أبدًا لا تموت، وإن عز في الدنيا اللقاء، أرجو أن يحدث ذلك في الخلود