محمود جودة يكتب لـ "زوايا": على بال مين يلّي بترقص في العتمة

مُؤسف أن أُعنون المَقال بما فات من كلمات "على بال مين يلّي بترقص في العتمة".


لكنّ الأسف هُنا مَحض سخافة بالنسبة لما قاله الفتى الذي صادفته وهو يبيع قنينة زيت، وكيس حليب مُؤن بنصف الثمن.


كنتُ وقتها في طريقي لأبتاعَ كيس حليب من دكانة متواضعة في زاوية الحارة.


أشياءٌ كثيرة تجدها في هذا الدكان: طناجر طبيخ مستعملة، بطاريات شحن، أنابيب غاز، مواد تموينية، وأحذية مستعملة.


وأشياء لا رابط بينهما سوى أصحابها الفقراء، التي يشتريها صاحب الدكان من المُعدمين.


بعدما أنها الفتى بيع ممتلكاته التموينية، التي ربما حصل عليها عن طريق مساعدة ذابَ فيها لحم وجهه.


سألتُ البائع: ما الذي يجري؟! لماذا تشتري البضائع بنصف ثمنها؟!


فأجابني بما هو صاعق، قالَ أن هذه البضائع هي من المساعدات التي تأتي إلى الأسر الفقيرة.


وبعضها بضائع مسروقة من الجيران أو الأسواق أو من منازل مهجورة أو مأهولة بالخوف والفقر.


اقرأ ايضاً: بقايا حطام أم نقطة ضوء!

يَسرقها صاحب الكيف، أو صاحب المصلحة، ليبيعها لي ولغيري، ويشتري الحشيش أو الحبوب المُخدِّرة.


أو ربما يشتري العلاج له أو لأحد أفراد أسرته، أما أنا – يقول البائع – أستطيع التمييز بين صاحب العلاج، وصاحب الكيف ...


لما أشأ معرفة ميزانه في التعرف على نوع الشخصية، فهو أبُ هذه المنطقة، وحافظ أسرارها.


حتى أنه قال في حديثه الطويل أنه يعرف متى ينام رجال الحارة مع زوجاتهم، فهو من يبيعهم الحفاظات الرخيصة لنسائهم!


لم أكن أتحدث مع بائع، بقدر ما كُنت أتحدث مع خبيرٍ في تدوير الأشياء، فسألتهُ إن كان الأمر فيه خطر عليه.


فقال أنه يَشتري البضاعة من فقير، ويبيعها لفقير آخر: أنا مُجرد فقير ثالث، جميعنا هنا ندور في حلقة مقفلة تمامًا لا مَجال فيها للفهلوة!


في مُروري السريع، رأيت عشرات الفتية يجلسون على حواف الأرصفة، وبعض الكراسي البلاستيكية المهترئة.


الجميع كان يُدخن ويشرب القهوة الرخيصة التي انتشر بائعوها في كل مكان في قطاع غزة.


حتى أضحى القطاع من أكثر الأماكن عالميًا في استهلاك القهوة، وربما استهلاك الأحلام أيضًا.


جيشٌ عظيمٌ متروك في الساحات بلا أي خطةٍ للتقدّم، جلستُ هناك مع العشرات منهم، تجمّعنا في حلقةٍ كبيرة.


أنا أميلُ لهؤلاء المظلومين، أرى نفسي هُناك حيث مطاحن الألم، ومناجم الخذلان.


سألتهم عن قصة الموسم - وهي الانتخابات التشريعية -


فقفز لي أحدهم صارخًا: "إحنا بدناش ننتخب، إحنا بدنا ننتقم، بدك تقول عني ناقم قول، لا ناقم هاد ولا حاجة، أنا حاقد، حاقد جدًا!"


مُريعٌ كان حديث الشاب، وصادق جدًا، أكوم من اللّحم مرمية على الطرقات: مُصابين، ومقطعي الأطراف.


شباب في مقتبل الهم، ورد ذابل من شدّة العطش، بطالة كادت تقتل الروح، وفقر شديد وانعدام أمل، ومحاولات حثيثة للسخرية من أشياء تمرُ أمامه.


كمثل قائد بحجم وطن يركب سيارته الحديثة بعدما اجتمع فيهم وحثهم على أهمية مشاركة الشباب في صنع المستقبل!


هذا ما أخبرني به أحدهم عندما علا بصوتِ الشتيمة قائلًا : "كُلهم ولاد كل.... قبل يومين عملولنا قعدة بدهم أصواتنا.


جَمعونا في صالة فخمة وشغلوا ماتور كهرباء، وبيوتنا كلها كانت على العتمة، الحين شافونا، بعد ما متنا واحنا بنرقص على العتمة!


ذخيرةٌ عظيمة تتمناها الكثير من دول العالم، أعمارٌ ومواهب وطاقات تشغيل مهدورة، أُمهاتٌ، وآباء، وبناتٌ نخرَ الفقر أظافرهن، ووجوهُ شباب شاخت من الهم.


الكُل هُنا يرقص على العتمة، بعدما انكشفت له الحقيقة.


وبان له ما وراء الحائط، وسرق المتنفذين خبز أحلامه، وقاتلوه وساوموه على صمته ببعض حليبٍ وزيت قلي يبيعها بنصف ثمنها.


اقرأ أيضا: استقلالية موؤودة.. تغول السلطة التنفيذية على قضاء فلسطين

فأنا على بالي كل من يرقصُ في العتمة، كل مَن خدشَ الشعار الزائف بهاء روحه، وخطفت الطريق خطواته، ونسج العنكبوت خيوطه على مسامع فؤاده.


من يرقص في العتمة، هو من اكتشف السر، فاكتفى بنفسه، وعضّ على جرحه، وعفّ نظره، وأكرم سمعه، وكفكف دمع الحاجة.


وراح يرقص على العتمة رقصة الألم، رقصة الخلاص، رقصة الندم، لأن الشعار خذله.


كلُ من رقص، وسيرقص على العتمة على بَالي، فأنا عازفهم الذي لا يكل، وخازنهم الذي لا يبوح بالسر، فيا أخوتي في الألم.


لابد لكم من الرقص تحت النور، لابد أن تلعنوا العتمة ومن تسبب فيها.


لأن كل الحقوق التي ضاعت كان ورائها مطالبين، مَربط الحق هو أن تبطش بسارقِ الحق، لا أن تكتفي بمُطالبته!

atyaf logo