بقلم: محمود جودة
"سلامات سلامات سلامات، يا حبيبنا يا بلديات" الأغنية الخالدة للمطربة نادية مصطفى، أنين يَعزفُ على أوتارِ الغربة؛ وما الغربة إلا فندق الفلسطيني الذي طال فيه البقاء بانتظار إشارة العودة الآتية لا محالة كقسمِ الله في النُّونِ وما يَسطرُون.
يُلاحقنا العدو، أُفضل أن أصفهُ بهذه الصفة، فهي الحقيقة الوحيدة التي تُعبِّر عن الواقع، أما غيرها فهي مُجرّد نعوت تسقط مع أول دمعةٍ من مُغترب يَتُوق لأن يُدفن في نطاق جغرافيا "البلاد" كما نحب أن نسميها.
يُلاحق العدو الآن جذورنا الباقية في أرضنا المسلوبة باعتقال الكاتب الفلسطيني مهند أبو غوش بتهمة جديدة قديمة ألا وهي التواصل مع الأجانب، أي التواصل مع شتات رُوحه ممن توزعوا بسبب العدو على كُل مُدن وعواصم العالم، حتى أصبح لنا في كل مدينة مقبرة وألاف الأحلام التي تقف على رُكبةٍ ونصف متأهبة تمامًا للفكرة، للعودة، فقد تحوَّل الفلسطيني إلى كائن إلكتروني مُنذ عشرات السنين، عندما جعل من جهاز الراديو أداة لبعث الرسائل إلى المفقودين لعل الأسماع تتوافق في ساعة بث فيعثرون على بعض، وبعدها صار الهاتف أداة التواصل الجديدة التي يستطيع من خلالها التحدث مع أهله في الداخل المحتل وقطاع غزة والضفة وأراضي الشتات في العواصم البعيدة، فصار الفلسطيني كائن يعيش على الأصوات المنقولة إليه عبر الزمن كما قال الروائي مريد البرغوثي. أعياد من البهجة، وعشرات اللترات من الدموع كان سببها الهاتف.
العدو يخاف من الفلسطيني الحي، والحي هو من يعرف قضيته وأهله، وما زال على تواصل مع جذوره التي حاول العدو قطعها، فنجح حينًا وفشل أحيانًا كثيرة، بعد حرب حزيران عام 1967 واحتلال العدو لقطاع غزة والضفة الغربية، قام بعدها بسنوات قليلة بفتح البلاد على بعضها، فكان الأهل يتزاورون، ويتزوجون وكأن البلاد عادت لهم مجازًا، فصار الفلسطيني يتجوّل في عموم البلاد، ويأخذ الأجداد أحفادهم إلى قُراهم المسلوبة، ويقرأون عليهم آيات الوجع القديم، فحفظها الأبناء كنقشٍ في حجر، وقتها تنبه العدو للخطيئة التي قام بها فحاول بكل غدر أن يفصل الفلسطينيين عن بعضهم البعض، فصنع الحواجز والتصاريح حتى وصل إلى تجريم تواصل أبناء الداخل مع أهلهم في باقي شتات التغريبة الفلسطينية، إنه عدو يعرف جيدًا أن الفلسطيني يعيش على الأمل، وبهذا الأمل أعلن قيام الفكرة، عملًا بقول شاعرهم الأول والناطق الرسمي باسمهم محمود درويش: "ما أوسع الثورة، ما أضيقَ الرحلة، ما أكبرَ الفكرة، ما أصغرَ الدولة.
قبل عقدٍ من الزمن كان لي فرصة السفر إلى اسطنبول، تلك المدينة التي صارت بميدانها الأشهر ملتقى الفلسطينيين من كلِّ أصقاع الأرض، وأتعرف على مجموعة كبيرة من أهلنا من معظم المدن الفلسطينية في الداخل المحتل، والضفة الغربية، ومخيمات الشتات. كانت فرصة عظيمة أن أتعرف على صديق يعيش في مدينة أريحا، تلك المدينة التي لا نعرف عنها أكثر مما هو مكتوب في كتاب التربية الوطنية، وآخرين من جنين ورام الله وطولكرم وقلقيلة وحيفا والرملة، كُنا جميعًا نجتمع في الليل في غرفة رقم 412 في سكن "أديرنا كابي" الجامعي التي لا تزيد مساحتها عن مترين ونصف وبداخلها ستَّة أسرّة حديدية، كُنا وقتها نزيد عن الخمسة عَشر طالب، مِنَّا من كان يدرس الطب والهندسة والعلوم والسياسة والطيران والزراعة، دولة كاملة كانت في غرفة واحدة، كُنا ننعسُ على أرجلِ بعضنا، نُدخن ونسمع الموسيقى، ونشرب القهوة، ونلعن في الاحتلال، ونُخطط للمستقبل، جميعهم الآن أصبحوا أطباء ومهندسين وعلماء في مجال دراستهم، ومنهم من سوف يقرأ هذا المقال ويبكي مثلما أفعل أنا الآن.
"يا وطنًا تجمع على طاولة الفطور نحبك، يا وطنا صار في غرفة نحبك، يا أيها القاسي علينا نحبك، تجمعُنا غرفة في بلادِ الغُربة، وتُفرقنا الغُربة فيك، يا مَن تجمعنا على جُدرانك صورًا لنفديك"
أذكر في يومٍ سهرنا فيه إلى بدايات الفجر، وأنا وصديقي الغزي مُحاطين بالأسئلة من الأصدقاء عن غزة وأهلها وحقيقة حبهم للمشاكل، والفلفل الحرَّاق، وقتها شعرت وكأننا كائنين جئنا من الفضاء، حتى أنّ أحدهم كان يصنع لنا القهوة على "الكمكم" الكهربائي، قطع حديثنا وقال بنبرة المُستغرب: "بحياة ربكم أنتم من غزة؟!" استغربت سؤاله لا سيّما أننا قد تعارفنا منذ أيام، فقلت وأنا أضحك: "آه والله من غزة" .. فعاود الكلام قائلًا: "يا زلمة هيّكم كويسن، وما بتعُضوش، ومش غدارين ولا تبعين مشاكل، زي ما كانوا يحكولنا، ولا تبعون نسوان مع أنه النسوان بتحبكم يا أخوات الشلن". فسألته: "هل قابلت أحدًا من غزة قبل ذلك؟ فقال: "قابلت، لكني لم أجلس معهم أبدًا ولم أُعاشرهم، وكنت أتحاشاهم!" وأنا مثلك – قلت له - لم أقابل أحدًا من رام الله غير هذه المرّة، فأنا لم أغادر قطاع غزة منذ سبعة وعشرين عامًا، أي منذ ولادتي، وكُنت أظن أنكم "شايفين حالكم، بس اطلعنا إحنا اللي شايفين حالنا" فضحكنا جميعًا وقال لي وهو يمد القهوة ناحيتي: "خُد اشرب وقوم اعملننا قلاية بندورة غزاوية وتوصى بالفلفل"، هذا ما أراده الاحتلال، أن يفصلنا أروحًا وأجسادًا، وأن نُكوِّن عن بعضنا صورًا تُنفرنا ولا تجمعنا..
وفي صباح ذلك اليوم، الذي نمنا فيه متكورين على بعضنا، تجمعنا كلنا على طاولة الفطور، فكان الخبز من أطراف غزة، والزعتر من جبال جنين، وزيت الزيتون من رام الله، والعسل من الرملة، والضحك من الخليل، وطن كامل تجمع على مائدة فطور، وطن كامل أصبح في غرفة.
يا وطنًا تجمع على طاولة الفطور نحبك، يا وطنا صار في غرفة نحبك، يا أيها القاسي علينا نحبك، تجمعُنا غرفة في بلادِ الغُربة، وتُفرقنا الغُربة فيك، يا مَن تجمعنا على جُدرانك صورًا لنفديك.
دولتنا في الضلوع يا "إسرائيل" دولتنا في أسلاك الهاتف، وقصص الجدَّات، وأنين برد الشتات، وفي اللّعنات، دولتنا في أحضان بعضنا، وتواصلنا، دولتنا في اللّهجات المتعددة، والأغنية، وعزف ظريف الطول، ودولتكم نُكتة ستضحكنا كثيرًا بعدَ جيلٍ أو جيلين، و ألف حاجز.
"هذه آياتنا فاقرأ باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقا باسم الفدائي الذي يرحل من وقتكم لندائه الأول"