النباشون بغزة.. مهنة الفقراء لا تخلو من المخاطر!

صورة لأحد النباشين في مكبات النفايات بغزة
صورة لأحد النباشين في مكبات النفايات بغزة

التجأت فئة جديدة من فقراء قطاع غزة، خلال السنوات الأخيرة، إلى النبش في النفايات بحثاً عن ما يتوفر من "نحاس وألمنيوم وحديد وبلاستيك وغيرها من الخردة" لكي يبيعوها بأسعار زهيدة، وتعينهم على توفير جزء من احتياجاتهم المعيشية، حتى بات يطلق عليهم "النباشون".

و"النبّاشون" مصطلح يُطلق على الأشخاص الذين يبحثون في النفايات وأكوام القمامة في قطاع غزة، عن مواد يمكن إعادة تدويرها وبيعها مثل قطع البلاستيك والمعادن و"الخردة" بشكل عام.

ويعد اللجوء لهذه المهنة المذكورة، نتيجة طبيعية لارتفاع نسب الفقر والبطالة والباحثين عن العمل في القطاع، إذ تزيد نسبة الفقر على 80%، في حين تلامس نسبة البطالة حاجز الـ 65%، علماً أن عدد الباحثين عن عمل بلغ نحو 450 ألف ما بين عامل ومهني وخريج، وذلك وفقاً لبيانات وإحصاءات رسمية من وزارة العمل في غزة.

اقرأ أيضاً:  التشغيل المؤقت.. لا يُسمن ولا يُغني من جوع!

وانطلاقاً من ذلك، فإن موقع "زوايا" يفتح ملف "النباشين" للتعرف على طبيعة عملهم ورؤية المجتمع لهم، وما تأثير ذلك على عمل البلديات في مكبات النفايات؟ والمخاطر على حياتهم؟ وما إمكانية توفير بدائل لعمل النباشين في مشروعات تدوير النفايات؟ إلى جانب استطلاع رأي المختصين حول الدوافع والمحاذير وراء تنامي هذه المهنة.

النبش في العلن والخفاء

فمؤخراً، تدول النشطاء فيديو على "تك توك" لامرأة منتقبة بصحبة اثنين من أولادها، حيث عرفت عن نفسها بلغتها العامية قائلة "أنا بطول رزقتي من الزبالة لي ولأولادي، والشغل مش عيب، فأنا داري مقصوفة ومهدومة ومليش بيت، وأنا امرأة زارعة كلى ومحروقة وزارعة أحبال صوتية، وعملت عمليات كثيرة هنا وفي الداخل المحتل، وهي آخرتها بأنبش في الزبالة، حتى أطعم أولادي وأستر حالي وأجيب دوائي".

وتضيف: "هذه هي حياتي ومعيشتي، بطلع بلاستيك وألمنيوم، ونقعد ندور في زبايل العالم، ناشدت كثيرا وصرخت كثيرا ولم ألق جمعية ولا مؤسسة تتبناني أنا وأولادي، أنا عندي ثلاثة أولاد وبنت، فالأول عُدي أصم، والثاني محروق، وأولادي عندهم فقر دم وأنيميا ووباء كبدي (..) وين أروح أنا، الله أكبر يا عالم، أنا إلي سبع سنين بشتغل في الزبالة، ولي الشرف إني بطعمي أولادي من عرق جبيني". 

في حين أن الخمسيني (محمد. أبو ح) من محافظة خان يونس، يمنعه خجله ونظرة المجتمع له من النبش في النفايات علناً، فهو يخرج متخفياً في الليل بشكل شبه يومي لجمع ما تطوله يداه من النفايات، ويقول: "كنت مضطرا للخروج بعد منتصف الليل حتى لا يراني جيراني، ولكن ذلك لم يطل حتى عرفوا مقصدي من التخفي"، مضيفاً "هذا الأمر جعلني أجمع البلاستيك والألمنيوم والحديد في كل الأوقات".

apa002.jpg

وأردف "بالكاد أجمع بعض الكلوات، وأجمعها من وقت إلى آخر في بيتي وأبيعها بشواكل معدودات توفر قوت يومي وعيالي، حيث كيلو البلاستيك بـ2 شيكل، والحديد بـ2 شيكل، كما أن الألمنيوم بـ2 شيكل بعد أن كان الكيلو بـ3 شواكل".

ولدى سؤال "زوايا" لتاجر الخردة سليم حرارة عن التسعيرة والوجهة التي يتم فيها استغلال الخردة بعد شرائها من النباشين، فقد أكد أن الأسعار تتفاوت من حين لآخر، وذلك حسب التصريف للجهة التي يتم التصدير لها وهي الاحتلال الإسرائيلي، لافتاً إلى أنه كلما زاد الطلب يرتفع سعر الشراء من النباشين.

ولفت إلى أنه كلما تم تجميع كمية من خردة المعادن مثل النحاس والحديد والألمنيوم، فإنه يتم ضغطها "كبسها" على شكل مكعبات ومن ثم يتم تصديرها، أما خردة البلاستيك فهناك مصانع محلية في غزة تشتريها لإعادة تدويرها، رافضاً الولوج في أي أرقام أو كميات تصديرية من خردة المعادن.

كما لم يتسن الحصول من الجهات المختصة في غزة على بيانات حول كميات الخردة التي يتم تصديرها من القطاع للداخل المحتل، وذلك بحجة أنه لا توجد تحديثات جديدة على البيانات التي تم إعلانها العام الماضي والتي تقدر بنحو 200 طناً سنوياً، حيث ترى وزارة الاقتصاد الوطني بغزة أن تصدير الحديد الخردة من القطاع "يعتبر مكسباً اقتصادياً يحافظ على البيئة ويخلق فرص عمل جديدة".

وكان مدير عام التجارة والمعابر بوزارة الاقتصاد رامي أبو الريش، أوضح -في وقت سابق- أن تصدير حديد الخردة يوفر سيولة مالية للتجار بهذا المجال، ويفتح مجالات عمل جديدة سواء بجمع الحديد وكبسه ثم تصديره، والذي يحتاج لشركات نقل وعمال، ويشتغل فيه نحو 4000 عامل، مبيناً أن تجار حديد الخردة يشترون الطن من العاملين على الجمع بمبلغ ما بين 120 - 200 شيكل حسب جودته، حيث يستطيع العاملون بهذا المجال جمع حوالي 150 طناً يومياً.

خطر مكبات النفايات

أما العدد الأكبر من "النباشين" فيتواجدون بشكل يومي في مكبات النفايات المختلفة في القطاع، والذين ينتظرون الشاحنات الكبيرة لتفريع حمولاتها التي يتم تجميعها من نفايات الأحياء السكنية، حيث يقومون بتقليب أكوام النفايات بحثاً عن مُرادهم، ومن ثم بيعها لتجار الخردة.

091220_MS_1_00 (3).jpg
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المشهد في مكب نفايات "جحر الديك" شرق مدينة غزة كما رصدته "زوايا"، يبدو وكأنه "حلبة منافسة" بين النباشين بعضهم البعض، من أجل تحصيل أكبر قدر من الأشياء، وذلك بمجرد أن تُفرغ شاحنة البلدية حمولتها.

ومن جملة هؤلاء النباشون، يقف الشاب "علاء" على مقربة من المكب فوق "عربة كارة يجرها حمار" بانتظار شقيقيه اللذان يقومان بجمع البلاستيك من داخل المكب، ويقول "نأتي ثلاثتنا إلى هذا المكان يومياً من أجل جمع ما توفر، بينما في ساعات الليل نجمع النفايات من داخل الأحياء".

ويشير ذلك الشاب إلى أن قلة العمل والحياة الصعبة التي يعيشونها اضطرتهم إلى هذا العمل الذي "لا يُغني ولا يُسمن من جوع"، وفق وصفه، مفيداً أنه وجميع إخوته يعتاشون على "شيك الشؤون"، لكنهم لأكثر من عام لم تصرف لهم وزارة الشؤون الاجتماعية في رام الله إلا دفعة واحدة بقيمة 700 شيكل فقط، حالهم كحال بقية المستفيدين من الشؤون.

كما تطرق علاء إلى ما يتعرضون له من تنمر وزجر من بعض المواطنين أثناء تنقلهم بين النفايات في الأحياء السكنية، مشيراً إلى أنهم اعتادوا على ذلك ولم يعد يهمهم ما يقال، ولكنه أكد أن من النباشين من يسيئون لغيرهم بتصرفاتهم مثل "بعثرة القمامة خارج الحاويات وإحراقها، أو حتى إقدامهم على سرقة مقتنيات وممتلكات المواطنين بحجة أنها خردة".

وفي غمرة ما كان يتحدث علاء، تدخل شاب آخر يدعى (أبو العيس) فقال "إحنا الآن متحيرين نلاقيها منكو يا الصحفيين ولا من الناس ولا من البلدية والشرطة"، في إشارة منه إلى تسلط الأضواء عليهم بعد منع الأخيرة لهم من الوصول إلى المكب على ضوء شكوى بلدية غزة من اضطراب العمل داخل المكب بسبب "النباشين".

091220_MS_1_00 (17).jpg
ويشتكي النباشون من منعهم مؤخراً من القيام بهذا العمل من قبل الجهات المختصة مثل البلديات بمساعدة الشرطة الفلسطينية، الأمر الذي تُرجعه تلك الجهات إلى ما يشكله –النباشون- من اضطراب وإعاقة عمل طواقم وآليات البلديات العاملة في مكبات النفايات، فضلاً عن تعريض حياة النباشين للخطر في هذه الأثناء.

يذكر أنه في أواخر شهر يناير الماضي، أُعلن عن وفاة أحد النباشين الفتى (أسامة السرسك 14 عاماً) داخل مكب نفايات جحر الديك شرق غزة، حيث فتحت النيابة العامة في غزة تحقيقاً في الحادثة، وذلك على إثر اتهامات من العائلة للبلدية بالإهمال والتسبب بالوفاة.

وإثر ذلك، طالب مركز الميزان لحقوق الإنسان النيابة العامة بفتح تحقيق عاجل في ظروف وملابسات حادثة الوفاة، ونشر نتائج التحقيق على الملأ، كما طالبت الهيئة المستقلة جهات الاختصاص بضرورة التحقيق في ظروف وملابسات وفاة الطفل السرسك، داعية إلى تحديد المسؤوليات الناتجة عن تلك الحادثة ونشرها. 

مبررات المنع والبدائل

ويأتي المنع الأخير للنباشين، كما أفاد حسني مهنا مسؤول الإعلام في بلدية غزة لـ "زوايا" بسبب تزايد انتشار عشرات "النباشين" في مكب النفايات الرئيسي شرق المدينة، الأمر الذي يعيق عمل سائقي الشاحنات والجرافات التي تنقل القمامة، محذراً أن الأخطر من أي شيء آخر هو "الخطر الذي يتهدد حياة النباشين الذين يتعلقون بالشاحنات ويعملون تحت أسنان الجرافات".

اقرأ أيضاً: مساعدات فقراء غزة.. بين محاولات التوزيع الأمثل والعشوائية وشبهات الفساد

كما حذر مهنا من أن توقف العمل في مكب النفايات يهدد بكارثة صحية وبيئية ويؤخر عملية ترحيل وجمع النفايات من محافظات غزة والوسطى والشمال بواقع ١٢٠٠ طن يوميا، مبيناً أن هذا المكب تحديداً يخدم ثماني بلديات إضافة إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، حيث تُرحل بلدية غزة يومياً نحو 700 طن من النفايات إلى المكب، فيما تستقبل نحو 500 طن أخرى من مناطق وسط وشمال القطاع.

وأشار إلى أن بلديته خاطبت المؤسسات الحكومية والجهات المختصة وذات العلاقة بضرورة الإسراع في إيجاد حل لمنع النباشين من دخول المكب، حتى تستطيع الطواقم العاملة بترحيل النفايات منعاً لحدوث كارثة صحية وبيئية، لافتاً إلى أنه يتم إحراق مكبات النفايات من النباشين، حيث يشكل ذلك أعباء وتكاليف إضافية من أجل إطفائها وتجنب ضرر أدخنتها على السكان داخل المدينة.

وحول البدائل التي يمكن توفيرها للنباشين وإمكانية استغلالهم في مشروعات تعينهم في حياتهم المعيشية الصعبة، قال مهنا: "نحن نعلم أن عملية جمع النفايات وبيعها تعد مصدر دخل لهم في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة، لكن الاستمرار بهذا العمل بشكله الحالي يعد خطراً كبيراً على حياتهم ويتسبب بمكاره صحية نتيجة حرق النفايات في المكب".

وذكر أنهم بصدد تنظيم ورشات ولقاءات عاجلة مع المعنيين والمهتمين، لدارسة آليات معالجة هذه الظاهرة مع الجهات ذات العلاقة، وعرض تصور كامل لإعادة تأهيل مكب النفايات، معترفاً أنه يقع على عاتق الجهات الرسمية والمانحة والقطاع الخاص مسؤولية تشجيع عملية فرز النفايات من المصدر ليتم الاستفادة من النباشين واستيعابهم في مشاريع بهذا الخصوص، للحفاظ على سلامتهم وتقليل كميات النفايات في المدينة، واستقطاب مشاريع ممولة لتطبيق هذا الفكرة بشكل منظم ودائم وليس بشكل عشوائي في المدينة.

من ناحيته، ذكر أحمد أبو قمر الكاتب الصحفي المختص في المجال الاقتصادي، أن تجارة الخردة بشكل عام، تجارة قديمة وتحتل نسبة في فلسطين، مُرجعاً سبب انتشارها إلى ارتفاع نسب البطالة في صفوف الفلسطينيين وانحسار فرص العمل في السوق المحلي، إضافة إلى العائد المادي المجدي الناتج عن هذه المهنة.

وأوضح أن هذه التجارة تشكل مصدر رزق لـمئات الأسر التي يعمل أبناؤها في جمع الخردة، بالإضافة إلى العاملين في نقل هذه الـمعادن من أفراد وأصحاب مركبات، وصولاً إلى من يقوم بتجهيزها في مصانع كبس الـمعادن.

ويرى أبو قمر في حديثه لـ "زوايا" أنه لا بد من البحث في البدائل لتشغيل هؤلاء النباشين قبل الجري لقطع أرزاقهم، عاداً أنه ما كان لهم أن يمتهنوا البحث في النفايات عن قوت عيالهم لو توفر لهم ما يعينهم على الحياة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها القطاع منذ ما يزيد عن 16 عاماً.

وشدد أبو قمر على أن البحث والتفكير يجب أن ينصب على توظيف عمل لهؤلاء النباشين في المشروعات ذات العلاقة بالفرز وإعادة التدوير لهذه النفايات، مشيراً إلى أن ذلك يعتمد بشكل أساسي على توجيه المشاريع المدعومة من المؤسسات المحلية والدولية المهتمة في مجالات المحافظة على الصحة والبيئة والزراعة وما شابه من المشاريع التنموية نحو الملف المهم.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo