تشهد ملفات إعادة إعمار قطاع غزة صراعاً خفياً بين مسارين متناقضين، أحدهما مصري عربي يسعى لإعمار شامل يحفظ حقوق الفلسطينيين ويمنع التهجير، والآخر أميركي إسرائيلي يهدف لإعمار جزئي مشروط بنزع سلاح المقاومة وقد يمهد لتهجير قسري. وبينما تتسارع المشاورات الدولية لعقد مؤتمر الإعمار، يبقى السؤال الأهم: أي الرؤيتين ستفرض نفسها على الأرض؟
المسار المصري: الإعمار الشامل
تتبنى القاهرة رؤية واضحة للإعمار تقوم على مبدأ عدم التهجير وحفظ الأمن القومي المصري. فقد اعتمدت القمة العربية الطارئة في مارس الماضي خطة طموحة بتكلفة 53 مليار دولار على مدى 5 سنوات، تستهدف التعافي المبكر والإعمار الكامل للقطاع المدمر.
وتسعى مصر لتوفير توافق دولي حول هذه الرؤية، وتعمل على تهيئة البيئة المناسبة لمؤتمر دولي بالتنسيق مع الأمم المتحدة والشركاء الإقليميين. التأخير في عقد المؤتمر ليس فشلاً بقدر ما هو حرص على ضمان نجاحه وعدم تحوله إلى مجرد واجهة لمخططات أخرى.
المسار الأمريكي الإسرائيلي: الإعمار كأداة ضغط سياسي
في المقابل، يطرح جاريد كوشنر والمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ما يسمى "مشروع شروق الشمس"، الذي يركز على إعمار جزئي يبدأ من رفح الجنوبية القريبة من الحدود المصرية. هذه الخطة تثير تساؤلات خطيرة حول مصير مليوني نازح فلسطيني خلال فترة البناء التي قد تستمر عشر سنوات.
الخطة الأميركية تربط الإعمار بشروط سياسية وأمنية صارمة أبرزها نزع سلاح حماس، ولا تخصص أموالاً للمناطق التي لا تزال خارج السيطرة الإسرائيلية. هذا النهج يحول الإعمار من واجب إنساني إلى ورقة مساومة سياسية، ويفتح الباب لسيناريوهات التهجير القسري.
التحديات والمخاطر
أبرز التحدي يكمن في غموض الموقف الأميركي الذي يبدو متناغماً مع الطرح الإسرائيلي دون رفض صريح للخطة المصرية. هذا الغموض يخلق حالة من الارتباك الدولي ويؤخر الاستجابة الإنسانية العاجلة لكارثة غزة.
كما أن التعنت الإسرائيلي المستمر يشكل عقبة حقيقية أمام أي جهود جدية للإعمار، حيث تصر تل أبيب على فرض شروطها الأمنية والسياسية قبل السماح بأي عملية إعادة بناء.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول (مرجح): التوصل لصيغة توافقية تجمع بين الرؤية المصرية العربية والدعم الأميركي، مع تنازلات محدودة من الجانبين. هذا السيناريو يتطلب ضغطاً عربياً ودولياً مستمراً لمنع انحياز واشنطن الكامل للموقف الإسرائيلي.
السيناريو الثاني: فشل المساعي الدبلوماسية وتنفيذ إعمار جزئي تحت الإشراف الإسرائيلي، مما يؤدي لاستمرار المعاناة الإنسانية وربما بداية تهجير تدريجي للسكان.
السيناريو الثالث: نجاح مصر في فرض رؤيتها بالكامل وعقد مؤتمر دولي يلتزم بالخطة العربية الشاملة.
الخلاصة والتوصيات
نجاح المسار المصري يبدو أقرب للتحقق في ضوء المشاورات المستمرة والزخم الدبلوماسي العربي، خاصة مع إدراك واشنطن أن الانحياز الكامل لإسرائيل قد يعرقل المرحلة الثانية من الاتفاق المرتبطة بترتيبات أمنية وإدارية حاسمة.
لكن النجاح النهائي يتطلب:
الحفاظ على الزخم العربي والدولي لدعم الرؤية المصرية
الضغط المستمر لمنع تمرير أي مخططات تهجير مقنعة
تسريع عقد المؤتمر الدولي قبل أن تفرض الوقائع الإسرائيلية على الأرض
ضمان مشاركة فلسطينية فاعلة في كل مراحل التخطيط والتنفيذ
المعركة الحقيقية ليست على إعمار غزة فحسب، بل على مستقبل الوجود الفلسطيني في أرضه ومنع تحويل الكارثة الإنسانية إلى فرصة لتمرير مشاريع التهجير والتصفية.
