سنتان من الدم والركام لم تكف نتنياهو ليخرج من ورطته التاريخية. الرجل الذي قدّم نفسه في البداية كبطل قادر على سحق غزة خلال أسابيع وجد نفسه اليوم بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية حتى أبريل 2025 أمام أكثر من 116 ألف ضحية بين شهيد وجريح ومرآة مكسورة تعكس وجوها شاحبة في الداخل الإسرائيلي وأسئلة قاسية من عائلات الأسرى وضغوطا دولية لم يعد يستطيع التهرّب منها. فهل أدرك أخيرا أن القوة العسكرية ليست وصفة سحرية لإنهاء الحروب الكبرى. وأنه مهما علا صوت المدافع فإن الحقيقة تصرخ أعلى.
ترامب والخطة ذات الحادي والعشرين بندًا
من نيويورك خرج دونالد ترامب بخطته المكوّنة من 21 بندًا لإنهاء الحرب وكأن غزة مجرد معادلة حسابية تحتاج إلى قائمة مراجعة. صفقة تبادل أسرى هنا تمويل عربي هناك وإدارة لغزة منزوعة من سيطرة حماس كأنها ورقة شطرنج يمكن نقلها بيد لاعب غليظ الأصابع. لكن ما يثير السخرية السوداء أن معظم البنود مقبولة ومناسبة لإسرائيل بحسب صحف تل أبيب وكأن الإدارة الأمريكية صاغت النص من مكتب نتنياهو مباشرة. ومع ذلك يبدو أن ترامب الغارق في وعوده المعطوبة وملفاته الداخلية المتشابكة بدأ يفقد صبره وهو يضغط هذه المرة على نتنياهو بجدول زمني واضح لإنهاء الحرب. حتى الأوهام يا صديقي لها موعد انتهاء صلاحية.
الاعترافات الدولية… الرواية تنتصر
وسط الركام والجثث جاءت الاعترافات الدولية المتتالية بدولة فلسطين كصفعة دبلوماسية لإسرائيل. دول أوروبية وأمريكا اللاتينية سارعت للاعتراف لتكسر رواية تل أبيب وتمنح الفلسطينيين مكسبا استراتيجيا لا يقل أهمية عن أي معركة ميدانية. والأكثر إيلاما لإسرائيل أن مواقف دول مثل تشيلي وكولومبيا وبوليفيا بدت أكثر شجاعة من بعض مواقف العواصم العربية التي اكتفت بالتفرّج أو الاكتفاء ببيانات باهتة. كأن التاريخ يعيد نفسه حين يتخاذل الأشقاء يتقدّم الأغراب حاملين مشاعل العدالة لا من فضل بل من إحساس بالخجل مما صار عليه العالم.
الأمم المتحدة… مقعد بلا جمهور
مشهد نتنياهو وهو يعتلي منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة كان كافيا لفهم المعادلة. كثير من الوفود قاطعت القاعة أو انسحبت خلال خطابه بينما بدت مقاعد الدول العربية وكأنها خالية من الذاكرة والكرامة في البقاء بالصالة . كان يتحدث بلهجة المنتصر لكن كاميرات البث كشفت أنه يخاطب مقاعد فارغة أكثر مما يخاطب العالم. هنا تتحول الكوميديا السوداء إلى مأساة زعيم محاصر داخليا يترك وحيدا على المنصة يرفع خريطة بلا فلسطين بينما العالم يرسم خريطة جديدة للشرعية الدولية تضع فلسطين في قلبها.
الجمعية العامة في زمن الضياع
اجتماعات الجمعية العامة الحالية لم تكن سوى مسرح للهذيان السياسي. ترامب عاد ليُلقي خطابا ينكر فيه كل الحقائق يتجاهل فيه مأساة غزة ويصمت عن جرائم الحرب ويتحدث عن السلام كأنه بائع عقارات. لا ذكر للمناخ الذي يحترق ولا اعتراف بحق الشعوب في المقاومة ولا حتى احترام لسيادة الدول الصغيرة. الخطاب كان فارغا من الأخلاق ومن التاريخ ومن الإنسانية. والعالم كله يعيش حالة ضياع حقيقية. لم يعد هناك خصوصية لا للفرد ولا للدولة. كل شيء مراقب مسجّل مُسخّر لمصلحة القوة لا للعدل. حتى الأسرار صارت سلعة والدموع تُبثّ مباشرة على شاشات لا ترحم. في هذا العصر لم يعد هناك مكان للإنسان إلا كرقم أو كضجيج في خلفية المشهد.
سلام المطبعين… سلامٌ عليهم لا لهم
أما المطبعون أصحاب السلام الإبراهيمي فقد وجدوا أنفسهم فجأة في قلب نكتة تاريخية. كانوا يعتقدون أن توقيع الاتفاقيات سيمنحهم شرعية وأمانا فإذا بالسلام ينقلب عليهم لا لهم. إسرائيل لم تحترم سلاما ولا دما ولا حجارة مقدسة. واليوم العالم يعيد رسم خرائطه خارج هذه الاتفاقيات لأن الوقائع تجاوزت إسرائيل وتجاوزت قوتها العسكرية بل تجاوزت حتى المطبعين أنفسهم. فما كان يوما اختراقا دبلوماسيا صار اليوم وصمة تطبيع.
زاوية حادة تسئل؟؟
اليوم نقف أمام استحقاق دولي جديد الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين التحولات في المواقف الدولية وتغيّر لهجة واشنطن ذاتها. لم يعد السؤال متى تنتهي الحرب بل أصبح كيف ستُرسم المنطقة بعدها. والتاريخ هنا لا يرحم. فكما تجاوزت غزة رغم الحصار والدمار كل محاولات الإبادة ستتجاوز المنطقة أيضا كل محاولات التطبيع الفارغ. وربما في يوم ما يُجبر نتنياهو أو من يخلفه على النظر في مرآة لا يكسِرها الغضب بل يُصلحها العدل.