في 12 سبتمبر 2025، شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة تصويتاً تاريخياً على "إعلان نيويورك" لإحياء مسار حل الدولتين، والذي حظي بتأييد 142 دولة مقابل رفض 10 دول وامتناع 12 دولة. يسلط هذا التقدير الضوء على الدلالات الاستراتيجية لامتناع أربع دول إفريقية عن التصويت (الكاميرون، الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا، وجنوب السودان) في سياق الأزمة الراهنة في غزة والتطورات الإقليمية والدولية.
السياق والخلفية: أهمية التوقيت
يكتسب امتناع هذه الدول أهمية خاصة في ظل:
- استمرار التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة
- الجهود السعودية-الفرنسية لإحياء مسار حل الدولتين
- التحولات في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية
- تزايد الضغوط على إسرائيل من المجتمع الدولي
الرعاية الدولية للإعلان
رعت السعودية وفرنسا "إعلان نيويورك" عقب مؤتمر يوليو 2025، مما يعكس:
- محاولة لتشكيل إجماع دولي جديد
- استراتيجية دبلوماسية متعددة الأطراف
- سعي لتجاوز الجمود التقليدي في عملية السلام
تحليل مواقف الدول الممتنعة
الكاميرون: التوازن الحذر
الموقف الظاهري:
- دعم تقليدي لمواقف الاتحاد الإفريقي المؤيدة للقضية الفلسطينية
- تأكيد رئيس الوزراء في أغسطس 2024 على دعم إقامة دولة فلسطينية
- إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة
الموقف الفعلي:
- تجنب المواقف الحادة ضد إسرائيل على المستوى الثنائي
- عدم الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية في بعض المحافل
- تبني سياسة الحياد في التصويت كاستراتيجية دبلوماسية
التقييم: موقف براغماتي يحافظ على التوازن بين الالتزامات الإقليمية والمصالح الدولية.
الكونغو الديمقراطية: المصالح الأمنية المعقدة
العوامل المؤثرة:
- الاعتماد على الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي-الفرنسي
- النشاط الإسرائيلي في مجال الدعم الأمني والتقني
- التعاون في مراقبة الحدود ومكافحة الجماعات المسلحة
الاستراتيجية:
- التضامن اللفظي مع الفلسطينيين
- تجنب الإضرار بالعلاقات مع الشركاء الغربيين والإسرائيليين
- اتباع سياسة "التحفظ الإيجابي"
التقييم: موقف عملي يعكس الحاجة الماسة للدعم الأمني في مواجهة التحديات الداخلية.
إثيوبيا: النموذج الأمثل للموازنة الاستراتيجية
التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل:
- علاقات تمتد لعقود في مجالات الأمن والمياه والزراعة
- تعاون في مواجهة التهديدات الإرهابية
- اعتماد متبادل في المجال الأمني
الموقف المتوازن:
- مشاركة في بيانات الاتحاد الإفريقي المنددة بالهجمات الإسرائيلية
- الحفاظ على التحالف الأمني مع إسرائيل
- دعم لفظي محدود للقضية الفلسطينية
التقييم: إثيوبيا تمثل المثال الأوضح على الموازنة بين الخطاب السياسي والممارسة العملية.
جنوب السودان: العلاقة الخاصة
الأسس التاريخية:
- دعم إسرائيلي مبكر لاستقلال جنوب السودان عام 2011
- مساعدات في مجالات الأمن والزراعة والمياه
- علاقات استراتيجية خاصة
المواقف الحالية:
- نفي قاطع للتقارير حول إعادة توطين فلسطينيين من غزة
- تجنب الانخراط في ترتيبات مثيرة للجدل
- الحفاظ على مرونة سياسية مستقبلية
التقييم: موقف حذر يعكس الامتنان التاريخي مع تجنب التورط في قضايا إقليمية معقدة.
تحليل الدلالات
1- إعادة تعريف الدبلوماسية الإفريقية
التحول من الموقف الموحد:
- انتهاء عصر الإجماع الإفريقي المطلق
- بروز الحسابات الوطنية كمحدد أساسي
- تفكك النمط التقليدي للتضامن الإفريقي
الآثار على المستوى القاري:
- تراجع نفوذ الاتحاد الإفريقي في توحيد المواقف
- زيادة الهوامش للمناورة الدبلوماسية الفردية
- تعقيد عملية صنع القرار في المحافل الدولية
2- استراتيجية الحياد الفعّال
المزايا التكتيكية:
- تجنب التكاليف الدبلوماسية للمواقف الحادة
- الحفاظ على قنوات التواصل مع جميع الأطراف
- إبقاء الخيارات مفتوحة للتموضع المستقبلي
المخاطر المحتملة:
- فقدان المصداقية على المدى الطويل
- تآكل الثقة مع الحلفاء التقليديين
- تهميش الدور في القضايا الإقليمية الكبرى
3- تأثير العامل الإسرائيلي
الاستثمار في العلاقات الثنائية:
- تنويع إسرائيل لشراكاتها الإفريقية
- التركيز على القطاعات الحيوية (أمن، مياه، زراعة)
- خلق شبكة مصالح معقدة تقيد الحركة الدبلوماسية
النتائج الاستراتيجية:
- تقييد قدرة الدول الإفريقية على اتخاذ مواقف حادة
- خلق توازنات جديدة في السياسة الخارجية الإفريقية
- تعقيد عملية التضامن مع القضية الفلسطينية
4- الضغوط الخارجية والمصالح الوطنية
تأثير الشركاء الغربيين:
- الحاجة للدعم الاقتصادي والعسكري الغربي
- تأثير الولايات المتحدة وفرنسا في السياسات الإفريقية
- التوازن بين الالتزامات الدولية والضرورات المحلية
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: استمرار الحياد الاستراتيجي
الاحتمالية: عالية (70%)
المؤشرات:
- استقرار الأولويات الأمنية والاقتصادية
- استمرار الدعم الإسرائيلي والغربي
- عدم تغير جوهري في التوازنات الإقليمية
التداعيات:
- تثبيت نمط جديد في الدبلوماسية الإفريقية
- تراجع التضامن التقليدي مع القضية الفلسطينية
- زيادة التعقيدات في المواقف الجماعية المستقبلية
السيناريو الثاني: التموضع التدريجي مع الإجماع الدولي
الاحتمالية: متوسطة (25%)
المحفزات المحتملة:
- اعتراف دول غربية كبرى بالدولة الفلسطينية
- تصاعد الضغوط الشعبية الداخلية
- تغيير في السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل
النتائج المتوقعة:
- إعادة تقييم العلاقات مع إسرائيل
- البحث عن بدائل للشراكات الأمنية والتقنية
- العودة التدريجية للمواقف المؤيدة للفلسطينيين
السيناريو الثالث: التصعيد والمواقف الحادة
الاحتمالية: منخفضة (5%)
الشروط المطلوبة:
- تطورات جذرية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
- تغيير جذري في السياسات الغربية
- ضغوط إقليمية وقارية لا يمكن تجاهلها
المخاطر والتحديات:
- خسارة الدعم الأمني والاقتصادي الحيوي
- مواجهة عقوبات أو ضغوط دولية
- عدم الاستقرار الداخلي نتيجة فقدان الدعم الخارجي
التأثيرات على المستويات المختلفة
المستوى الإقليمي الإفريقي
- تعميق التباين في المواقف الإفريقية
- إضعاف قدرة الاتحاد الإفريقي على التوحيد
- بروز محاور جديدة في القارة الإفريقية
المستوى العربي والإسلامي
- تقليل فعالية الضغوط العربية والإسلامية
- الحاجة لاستراتيجيات جديدة للتأثير على إفريقيا
- إعادة تقييم الاستثمار في العلاقات الإفريقية
المستوى الدولي
- تأكيد نجاح الاستراتيجية الإسرائيلية في إفريقيا
- تعقيد جهود بناء إجماع دولي حول فلسطين
- تشجيع دول أخرى على تبني مواقف مماثلة
التوصيات
للدول العربية والإسلامية
- تطوير استراتيجية شاملة للتعامل مع إفريقيا
- زيادة الاستثمارات في القطاعات الحيوية
- تقديم بدائل للدعم الإسرائيلي والغربي
- تعزيز التبادل التجاري والثقافي
تبني مقاربات مرنة:
- فهم الضرورات الأمنية والاقتصادية للدول الإفريقية
- تجنب الضغوط المباشرة التي قد تأتي بنتائج عكسية
- التركيز على المصالح المشتركة طويلة المدى
للدول الإفريقية
تطوير استراتيجية متوازنة:
- الحفاظ على المرونة الدبلوماسية
- تنويع الشراكات لتجنب الاعتماد المفرط على طرف واحد
- إيجاد آليات للتوفيق بين المصالح والالتزامات الأخلاقية
تعزيز التنسيق الإقليمي:
- العمل على بلورة مواقف إفريقية موحدة حول القضايا المهمة
- تطوير آليات للحوار والتشاور
- البحث عن حلول إبداعية للتحديات المشتركة
للمجتمع الدولي
احترام التعقيدات المحلية:
- فهم الظروف الخاصة لكل دولة
- تجنب الضغوط التي قد تؤدي لعدم الاستقرار
- دعم الحلول التوافقية
تعزيز آليات الحوار:
- إيجاد منصات للحوار البناء
- دعم المبادرات الإقليمية
- تشجيع الدبلوماسية الهادئة
النتائج
يمثل امتناع الدول الإفريقية الأربع عن التصويت على "إعلان نيويورك" نقطة تحول مهمة في الدبلوماسية الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية. هذا الموقف لا يعكس تراجعاً في التضامن مع الشعب الفلسطيني بقدر ما يعكس تعقيدات جديدة في البيئة الدولية وتطور نمط جديد من الحسابات الاستراتيجية.
الدروس المستفادة:
- انتهاء عصر المواقف الجماعية التلقائية في إفريقيا
- أهمية الاستثمار في الشراكات طويلة المدى
- ضرورة فهم التعقيدات المحلية والإقليمية
- فعالية الدبلوماسية الهادئة مقابل الضغوط المباشرة
التوقعات المستقبلية: من المرجح أن تستمر هذه الدول في تبني مواقف متوازنة في المستقبل، مما يتطلب من جميع الأطراف المعنية تطوير استراتيجيات أكثر تطوراً ومرونة للتعامل مع هذا الواقع الجديد. النجاح في كسب هذه الدول لن يتحقق من خلال الضغوط أو الإملاءات، بل من خلال فهم احتياجاتها وتقديم بدائل حقيقية تخدم مصالحها الوطنية.
إن مستقبل المواقف الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية سيتحدد إلى حد كبير بقدرة الأطراف المختلفة على تقديم نماذج شراكة حقيقية ومستدامة تحترم سيادة هذه الدول وتلبي احتياجاتها التنموية والأمنية.