تحليل

عملية الدوحة: الهدف تدمير المسار التفاوضي

أثار الدمار الاسرائيلي على قطاع غزة
أثار الدمار الاسرائيلي على قطاع غزة

في عصر الثلاثاء الماضي، شهدت العاصمة القطرية الدوحة غارة جوية إسرائيلية استهدفت مقر الوفد الفلسطيني المفاوض، في عملية كشفت عن تعقيدات الاستراتيجية الإسرائيلية وتناقضاتها. رغم فشل العملية في تحقيق هدفها المعلن باغتيال قيادات حماس، إلا أنها نجحت في تحقيق هدف أكثر استراتيجية: تدمير العملية التفاوضية وإعادة تشكيل المعادلة الإقليمية لصالح منطق القوة على حساب الدبلوماسية.

تشريح الفشل

الأهداف والنتائج

وفقاً للتقارير الإسرائيلية، استهدفت العملية نخبة من قيادات حماس بما في ذلك خليل الحية وزاهر جبارين ونزار عوض الله ومحمد درويش وغازي حمد وخالد مشعل وعزت الرشق. هذه القائمة الطويلة من الأهداف المرجوة تكشف عن طموح إسرائيلي لتوجيه ضربة قاضية للقيادة السياسية لحماس في ضربة واحدة.

لكن الواقع أثبت أن العملية فشلت في تحقيق هدفها الأساسي، حيث نجت جميع القيادات المستهدفة، وقُتل خمسة أشخاص فقط من بينهم همام الحية، نجل كبير المفاوضين. هذا الفشل التكتيكي دفع القيادة الإسرائيلية لإعادة تأطير "النجاح" من خلال التركيز على أهداف أخرى مثل ترويع القيادة وإجبارها على الاختباء.

من التفاؤل إلى التشاؤم

شهدت وسائل الإعلام العبرية تحولاً دراماتيكياً في تناولها للعملية، من "التفاؤل الحذر" الأولي إلى "التشاؤم المقيت" عندما تبين فشل العملية في تحقيق أهدافها المعلنة. هذا التحول يعكس ليس فقط فشل العملية العسكري، بل أيضاً توقعات مبالغ فيها حول قدرة العمليات الفردية على تغيير مجرى الصراع بشكل جوهري.

تدمير المسار التفاوضي

أكثر ما يثير الشكوك حول الدوافع الحقيقية للعملية هو توقيتها الدقيق. جاءت الغارة أثناء انعقاد اجتماع لقيادة الوفد المفاوض التابع لحماس، المخصص لبحث مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمسار إنهاء الحرب وتبادل الأسرى.

إذا صحت التسريبات بأن الاجتماع كان سيوافق على مقترح ترامب، أو على الأقل إبداء استعداد للتفاوض حوله، فإن هدف الغارة الحقيقي يصبح واضحاً: قطع الطريق على فتح باب المفاوضات من جديد من خلال عملية الاغتيال.

المعادلة الإسرائيلية: الاجتياح أو الاستسلام

تكشف العملية عن استراتيجية إسرائيلية تقوم على معادلة واضحة: إما الاجتياح الشامل أو الاستسلام الكامل. المفاوضات، في هذا السياق، تُعتبر عقبة أمام هذه المعادلة لأنها قد "تخربط" الخطة الإسرائيلية وتفرض حلولاً وسط لا ترغب إسرائيل في قبولها.

وفق هذا السيناريو، وافقت إسرائيل على مقترح ترامب انطلاقاً من اعتقادها أن حماس لن توافق عليه. وحين ترشح أن حماس قد تظهر مرونة، قامت إسرائيل بالاستهداف لمنع هذه المرونة من أن تتبلور إلى موافقة فعلية.

الدور الأمريكي المثير للجدل

أكد نتنياهو في بيانه أن "العملية كانت عملية إسرائيلية مستقلة تماما. إسرائيل بادرت إليها، إسرائيل أدارتها، وإسرائيل تأخذ على عاتقها المسؤولية كاملة". لكن هذا الإنكار المبالغ فيه يثير مزيداً من الشكوك حول التنسيق المسبق مع الولايات المتحدة.

لهجة الإنكار المسبق لأي تنسيق مع جهات خارجية تؤكد، بدلاً من أن تنفي، أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالعملية وبتفاصيلها. فلو كانت إسرائيل تعتقد أن هناك معارضة حازمة في إدارة ترامب لمثل هذه العملية، لما أقدمت على تنفيذها.

التعهدات المنقوضة والثقة المفقودة

أكدت مصادر متعددة أن الإدارة الأمريكية ووكالة الموساد الإسرائيلية تعهدتا الشهر الماضي للدوحة بعدم التعرض لقيادات حماس الموجودة في الأراضي القطرية. جاء هذا التعهد بعد تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي الذي هدد باغتيال قيادات حماس في الخارج.

انتهاك هذا التعهد يطرح تساؤلات جدية حول مصداقية الضمانات الأمريكية والإسرائيلية، ويقوض الثقة اللازمة لأي عملية تفاوضية مستقبلية.

سيناريو ترامب "الخيالي"

وصل الأمر بترامب للادعاء أن إسرائيل لم تبلغه بالعملية، وأن الجيش الأمريكي لاحظ تحركاً للطائرات الإسرائيلية فأبلغ الرئيس الذي فحص الموضوع مع الإسرائيليين فعرف بالغارة وأبلغ بها القطريين - بعد فوات الأوان.

هذا السيناريو "الخيالي" كما وصفته المصادر، لم يكن له هدف سوى إبعاد التهمة عن الإدارة الأمريكية بالمشاركة في انتهاك السيادة القطرية. لكنه في الوقت نفسه يكشف عن مستوى التنسيق الفعلي والحاجة للإنكار العلني.

فعالية الاغتيالات؟

تندرج العملية ضمن عقيدة إسرائيلية راسخة تقوم على الاعتقاد بأن قتل القيادات يغير مجرى التطورات جوهرياً لصالح إسرائيل. هذه العقيدة، التي نتجت عن تنفيذ المئات من اغتيالات القادة الفلسطينيين، جعلت الاغتيال مركباً مهماً في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية.

كون المستهدفين في قطر قيادات سياسية ليس لها دور عسكري أو أمني مباشر، لا يقلل من الاندفاع الإسرائيلي لقتلها. السياسة الإسرائيلية شبه الرسمية المتبعة منذ عقود هي "البوليتيسايد" - أي الإبادة السياسية ومحو قيادات الصف الأول الفلسطينية، حتى لا تلعب دوراً في مواجهة الاحتلال والمشروع الإسرائيلي.

قرار ما بعد السابع من أكتوبر

اتخذت إسرائيل قراراً فور أحداث السابع من أكتوبر 2023 بالقضاء على جميع قادة حماس في أماكن وجودهم كافة. المسؤولون الإسرائيليون أشاروا إلى أن توقيت التنفيذ سيكون "تبعاً للتطورات والفرص والسياقات".

حين سُئل هؤلاء المسؤولون سابقاً "لماذا لا تقتلون قيادة حماس في قطر؟" أجابوا بسؤال "ومن سنفاوض حينها؟". يبدو أن إسرائيل لم تعد تسعى للتفاوض، وكما قال مسؤول أمريكي كبير: "إسرائيل فشلت في اغتيال قادة حماس ونجحت في اغتيال مفاوضات الصفقة".

استراتيجية الاغتيال الجماعي

يندرج الاستهداف في الدوحة ضمن حملة اغتيالات قادة حماس في غزة ولبنان ومواقع أخرى. كما يندرج في إطار الغارات الإسرائيلية بعيدة المدى التي وصلت إلى إيران واليمن، وهو حلقة إضافية في سلسلة الاغتيال الجماعي للقيادات.

التحضير المسبق والانتظار

في إطار هذه السياقات، جرى التحضير للعملية منذ أشهر طويلة وكانت جاهزة منذ مدة بانتظار التوقيت الملائم. كل شيء كان مُعداً للعملية من حيث انسجامها مع التوجه العام والقرار المبدئي ورسم الخطة والتجهيز لها.

جدل التوقيت ونتنياهو المتسرع

النقاش الوحيد داخل القيادة الإسرائيلية كان حول التوقيت. حاولت القيادات الأمنية التأجيل إلى ما بعد انتهاء مدة إنذار ترامب نهاية الأسبوع، لكن نتنياهو أصر على التنفيذ الفوري.

ربط نتنياهو لاحقاً بين الغارة في الدوحة وعملية إطلاق النار في القدس التي أسفرت عن مقتل ستة إسرائيليين. هذا ربط واهٍ، إذ لا توجد علاقة تنظيمية بين قادة حماس في الدوحة والشابين اللذين نفذا عملية القدس.

الدوافع الحقيقية للتوقيت

يبدو أن السبب الرئيسي للتوقيت كان "توفر فرصة" لاستهداف القيادة مجتمعة، والسعي لمراكمة إنجازات للإعلان لاحقاً عن "النصر المطلق". ربما أراد نتنياهو التخلص من المفاوضين لإفشال المفاوضات بالادعاء أنه لا يوجد مفاوض من الطرف الآخر.

مفهوم إسرائيل للشرق الأوسط الجديد

حين تتحدث إسرائيل - نتنياهو عن "شرق أوسط" جديد، فهي تعني بالضبط ما حدث في الدوحة. تعني أن إسرائيل لها الحق بالتدخل العسكري حيثما تشاء وحينما تبغي وكيفما تريد.

تنطلق إسرائيل في ممارسة أشكال مختلفة من العدوان وانتهاك سيادة الدول من "شرعية أمريكية" تغنيها عن أي التزام بالشرعية الدولية وبالقانون الدولي.

فرض النظام الإقليمي الجديد

تحاول القيادة الإسرائيلية فرض "نظام إقليمي جديد" محوره الأساس أمن ومصالح الدولة الصهيونية، ومنطقه فرض الهيمنة بقوة السلاح الأمريكي. هذا النظام يقوم على تجاوز مفهوم السيادة الوطنية والقانون الدولي لصالح منطق القوة العسكرية.

الانفلات الإجرامي المتزايد

لا يعقل أن يقف العرب عاجزين عن لجم الانفلات الإجرامي الإسرائيلي في غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن والآن في قطر أيضاً. هناك الكثير مما يمكن فعله لإجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة في غزة.

أولوية التحالف على الاعتراف

إقامة تحالف دولي عربي واسع لإنهاء الإبادة في غزة أكثر إلحاحاً وأهمية في هذه اللحظة من حراك الاعتراف بالدولة الفلسطينية. لا يجوز إبقاء الجريح ينزف على الأرض دون إسعاف، ووعده ببيت جميل وآمن في المستقبل البعيد.

من الفشل التكتيكي إلى النجاح الاستراتيجي

العملية الإسرائيلية في الدوحة تُلخص بوضوح طبيعة الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية: استخدام القوة العسكرية لتدمير المسار السياسي وفرض منطق الغلبة على منطق التفاوض. رغم فشلها في اغتيال القيادات المستهدفة، نجحت العملية في تحقيق هدف أكثر أهمية: تعطيل العملية التفاوضية وإعادة تأكيد أن إسرائيل تفضل الحل العسكري على الحل السياسي.

هذا التطور يضع المنطقة أمام خيارات صعبة: إما الخضوع لمنطق القوة الإسرائيلي وقبول النظام الإقليمي الجديد الذي تفرضه، أو تشكيل تحالف قادر على فرض احترام القانون الدولي وحماية السيادة الوطنية للدول العربية.

المفاوضات اليوم أصبحت قراراً أمريكياً بامتياز، لكن نجاحها مرهون بقدرة الأطراف الإقليمية على فرض حدود واضحة للسلوك الإسرائيلي وإعادة التوازن لمعادلة القوة في المنطقة. وإلا فإن ما حدث في الدوحة سيكون مجرد البداية لسلسلة أطول من انتهاكات السيادة العربية تحت مظلة "الشرق الأوسط الجديد" الإسرائيلي.

المصدر : متابعة-زوايا
atyaf logo