من يهدم غزة؟

شركات مقاولات وشبيبة التلال يربحون ملايين الشواكل

هدم المباني في قطاع غزة
هدم المباني في قطاع غزة

آلية التدمير الممنهج في غزة

في تطور لافت يكشف عن طبيعة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تشير الأدلة المتراكمة إلى أن عمليات التدمير الواسعة النطاق لا تقتصر على الآلة العسكرية الإسرائيلية وحدها، بل تشمل شبكة معقدة من المقاولين المدنيين وشركات الهدم الخاصة العاملة تحت مظلة وزارة الجيش الإسرائيلية.

هذه الشبكة، التي تضم أيضاً مجموعات أيديولوجية من "شبيبة التلال" الاستيطانية، تعمل وفق منظومة اقتصادية مربحة ورؤية استيطانية تهدف إلى تنفيذ ما يُوصف بـ"التطهير العرقي الممنهج".

تكشف المعطيات أن 70% من مباني القطاع باتت غير صالحة للسكن، فيما يطاول الدمار المرافق التعليمية والصحية والزراعية بشكل ممنهج. هذا التدمير العمراني الشامل لا يمثل مجرد نتيجة جانبية للعمليات العسكرية، بل يشكل أداة تنفيذية لخطة تهجير قسري تتماشى مع تصريحات رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بشأن دفع السكان نحو الهجرة من غزة.

أولاً: خصخصة التدمير - نموذج اقتصادي جديد للحرب

تكشف التحقيقات الصحافية الإسرائيلية عن ظاهرة "خصخصة التدمير"، حيث تُفوّض شركات مدنية بمهام كانت تقليدياً ضمن اختصاص الجيش الإسرائيلي. يتولى المقاولون المدنيون مهمة إزالة المناطق السكنية في إطار ما يُسمى "تهيئة مناطق الأمان"، وهو تعبير ملطف لعمليات التدمير المستمر للمنازل.

تعمل هذه المنظومة وفق آلية منظمة، حيث يتولى مقاولون مدنيون تنفيذ المهام الميدانية بالتنسيق المباشر مع وحدات الهندسة العسكرية. تصل فرق العمل المدنية في ساعات الصباح الباكر، ويتم إدخالها إلى داخل القطاع، حيث تواصل عملها حتى غروب الشمس تحت حماية قوات الجيش.

المشاريع الاستراتيجية والأهداف التدميرية

تتجسد هذه الآلية في تنفيذ مشاريع واسعة النطاق، أبرزها:

  • إقامة "منطقة عازلة" بعمق يصل إلى كيلومتر ونصف داخل أراضي القطاع
  • تأمين ممرات استراتيجية مثل نتساريم وفيلادلفيا
  • تدمير المناطق السكنية بشكل ممنهج لمنع إمكانية العودة

تحتاج هذه المشاريع إلى تعبئة مكثفة للمعدات الثقيلة والكوادر المدنية، مما أفضى إلى العمل المشترك بين المؤسسة العسكرية وشركات المقاولات، حيث يستطيع الجيش تحقيق أهدافه بمرونة أكبر وتكلفة أقل، فيما يتحول الدمار إلى فرصة اقتصادية مربحة للقطاع الخاص تُقدّر قيمتها بمليارات الشواكل.

ثانياً: المنظومة الربحية - اقتصاديات التدمير تحت رعاية الجيش

تعتمد وزارة الجيش الإسرائيلية نماذج دفع متنوعة تضمن تدفقاً مستمراً للعمالة والمعدات:

المسار اليومي: يتقاضى صاحب المعدات مبلغاً ثابتاً يتراوح بين 5,000-5,500 شيكل يومياً عن كل آلية، مع تغطية تكاليف النقل والوقود، مما يضمن ربحاً ثابتاً ومضموناً.

مسار المقاولات (الدفع حسب الإنجاز): يُدفع 2,500 شيكل لهدم مبنى من ثلاثة طوابق، و5,000 شيكل للمباني الأعلى. يُعد هذا النموذج الأخطر، إذ يحفّز مباشرة على تسريع وتوسيع نطاق التدمير بربط الربح بحجم الدمار المُنجز.

الأرباح الفردية والإغراءات المالية

أدت هذه الحوافز المالية إلى تحقيق أرباح ضخمة على المستوى الفردي، إذ يمكن لمشغلي المعدات الثقيلة أن يحققوا دخلاً شهرياً صافياً يصل إلى 30,000 شيكل. انعكس هذا الإغراء في عروض العمل المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعد بـ"1500 شيكل في اليوم" أو "400 شيكل في الساعة (صافي)".

الشبكات التنظيمية والقيادات

تشير التحقيقات إلى وجود منظومتين مدنيتين تعملان تحت إشراف مباشر من وزارة الجيش:

المنظومة الشمالية: تُدار من قبل غولان فاخ، شقيق قائد فرقة 252 يهودا فاخ

المنظومة الجنوبية: تعمل تحت إشراف بتسلئيل زيني، شقيق رئيس جهاز الشاباك الحالي دافيد زيني

هذا التداخل في العلاقات العائلية والمهنية يكشف عن طبيعة الشبكات التي تدير عمليات التدمير.

ثالثاً: إدارة المخاطر والحماية القانونية

التحديات التشغيلية في بيئة الحرب

على الرغم من الأجور المغرية، تواجه هذه السوق تحديات مرتبطة بالعمل في منطقة حرب. الخوف يمثل عائقاً كبيراً أمام توظيف العمال، حيث أن المعدات المدنية غير مصفحة، مما يعرض المشغلين لخطر الموت المباشر.

الآليات القانونية للحماية

تتعامل وزارة الحرب مع هذا الخطر عبر آليات قانونية، يُطلب من العمال التوقيع على استمارة "موافقة العامل (غير الراغب بالتجنيد) على تنفيذ أعمال خارج الحدود"، وهي وثيقة لا تذكر صراحة أن العمل يتم في غزة.

البند السادس في هذه الاستمارة هو الأهم، حيث يوضح أنه في حالة "إصابة جسدية نتيجة عملية عدائية" أو الوفاة، فإن التعويض سيكون وفق قانون ضحايا العمليات العدائية، وسيُعترف بالعامل على أنه "ضحية عملية عدائية"، أي "كجندي قتيل في الجيش الإسرائيلي".

رابعاً: البُعد الأيديولوجي - من الانتقام إلى الرؤية المسيانية

دور "شبيبة التلال" في عمليات الهدم

لم تقتصر دوافع عمليات هدم المباني في قطاع غزة على البعد الاقتصادي فحسب، بل برز فيها بوضوح بعدٌ أيديولوجي يتقاطع مع الحافز الربحي. تشير التحقيقات إلى اشتراك "شبيبة التلال" في فرق الهدم الميدانية، حيث يُنظر إلى العمل في غزة كوسيلة لكسب المال، وتجسيداً عملياً لرؤية استيطانية.

يُقدّر أعداد هؤلاء بنحو مائة شاب من مستوطنات الضفة الغربية يعملون كمشغّلين لمعدات هندسية ثقيلة داخل القطاع. ترى دانييلا فايس، من حركة "نحالا" الاستيطانية، أن "بين شبابنا – شبيبة التلال- هناك شعور بالرسالة"، موضحة أن هذه الرسالة تتمثل في "تهيئة الأرض للاستيطان".

التحول من الانتقام إلى المهمة المقدسة

يجسّد "جادي" – أحد العاملين في الهدم - هذه الديناميكية حين يقول: "في البداية فعلت ذلك من أجل المال. ثم من أجل الانتقام". هذا التصريح يكشف عن التطور النفسي والأيديولوجي للمشاركين في عمليات التدمير.

يذهب أبراهام زريف، الجندي الاحتياط الذي يشغّل معدات ثقيلة في غزة ويبث مقاطع فيديو تجمع بين الخطاب الديني وعمليات الهدم، إلى أبعد من ذلك، حين يعتبر عمله تنفيذاً لإرادة إلهية تهدف إلى "تنظيف الأرض" من "كل هذا الشر العظيم".

الوحدات الأيديولوجية المتخصصة

الأبرز من ذلك هو بروز وحدات تحمل أسماء وشخصيات من التوراة، مثل "قوة أوريا"، التي لا تخفي طابعها الأيديولوجي وتصف نفسها بأنها "فريق معدات هندسية منتصر"، وتفخر بدورها في تدمير رفح.

هذه الوحدة، التي أسسها جنود احتياط يعملون كمشغّلين للمعدات الثقيلة في حياتهم المدنية، أنشئت خصيصاً للمشاركة في الحرب داخل غزة، في ظل النقص المسجّل في آليات D9 نتيجة القيود الأميركية.

خامساً: الرمزية والطقوس التدميرية

تخليد الذكرى بالتدمير

في 22 تموز 2025، أعلنت "قوة أوريا" أنها هدمت 409 مبان تخليداً لذكرى الجندي أفراهام أزولاي، أحد أعضاء القوة الذي قُتل في القطاع يوم 9 تموز 2025. وجاء في منشورها "إن قوة أوريا تهدي هذه المباني المهدّمة إلى روحه، ونُعدّ الأرض لاستيطان يهودي في منطقة قطاع غزة".

هذا التصريح يكشف بوضوح عن الهدف النهائي للتدمير: تهيئة الأرض للاستيطان اليهودي، مما يؤكد أن عمليات الهدم لا تهدف فقط إلى إلحاق الضرر بالبنية التحتية، بل إلى تغيير ديموغرافي وجغرافي دائم.

الخلاصة والتقديرات المستقبلية

تكشف هذه المعطيات عن منظومة معقدة تجمع بين الدوافع الاقتصادية والأيديولوجية والاستراتيجية في تنفيذ عمليات التدمير في قطاع غزة. هذه المنظومة تتضمن:

العناصر الأساسية للمنظومة التدميرية:

الشق الاقتصادي: سوق مربحة تقدر بمليارات الشواكل تحفز على التدمير

الشق التنظيمي: شبكة من المقاولين المدنيين العاملين تحت إشراف وزارة الحرب

الشق الأيديولوجي: مشاركة جماعات استيطانية ترى في التدمير مهمة مقدسة

الشق القانوني: آليات حماية قانونية تعامل المدنيين كجنود في حالة الإصابة

التداعيات طويلة المدى:

ديموغرافياً: منع عودة الفلسطينيين إلى القطاع من خلال التدمير الشامل

جغرافياً: إعادة تشكيل المجال المكاني تمهيداً لمشاريع استيطانية

اقتصادياً: خلق سوق جديدة للتدمير كنشاط اقتصادي مربح

أيديولوجياً: تعميق الرواية الاستيطانية ودمجها في النشاط الاقتصادي

هذه المنظومة التدميرية تمثل نموذجاً جديداً في إدارة الحروب، حيث تتداخل الأهداف العسكرية مع المصالح الاقتصادية والرؤى الأيديولوجية، مما ينتج عنه تدمير ممنهج يهدف إلى تغيير دائم في الواقع الديموغرافي والجغرافي لقطاع غزة.

المصدر : متابعة-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo