التَّرَبُّح مِن المعاناة

تقْدير موْقف: عَسكرَة المساعدات فِي غَزةَ. . . هَندسَة المجْتمع تَحْت النَّار

شاحنات المساعدات في غزة
شاحنات المساعدات في غزة

يكشف السياسات الإسرائيلية عن تطور خطير في استخدام المساعدات الإنسانية كأداة حرب غير تقليدية، حيث تتحول من وسيلة إغاثة محايدة إلى أداة سياسية وعسكرية متعددة الوظائف. هذا التطور يمثل نقلة نوعية في مفهوم الحرب الحديثة وإدارة الصراعات طويلة الأمد.

النموذج السوري: التدخل والتغيير الناعم

تُظهر عملية "حسن الجوار" في سوريا (2016-2018) نموذجاً للتوظيف الاستراتيجي للمساعدات الإنسانية كجزء من سياسة التدخل الناعم. الأهداف الحقيقية تجاوزت البُعد الإنساني لتشمل:

- إعادة تشكيل البيئة الأمنية: منع تمركز القوات الإيرانية وحزب الله على الحدود الشمالية

- بناء شبكات نفوذ محلية: من خلال كسب ولاء المجتمعات الحدودية

- تحقيق أهداف استراتيجية بتكلفة منخفضة: تجنب التدخل العسكري المباشر

هذا النموذج يعكس فهماً متقدماً لآليات الصراع الحديث، حيث تُستخدم القوة الناعمة لتحقيق أهداف استراتيجية بدون تصعيد مباشر.

النموذج الغزاوي: الهندسة الاجتماعية تحت النار

في غزة، تطور الاستخدام ليصبح أكثر تطرفاً وأكثر وضوحاً في أهدافه التدميرية للنسيج الاجتماعي. الخصائص الأساسية لهذا النموذج:

التفكيك الاجتماعي المُمنهج

- فصل المجتمع عن المقاومة: من خلال خلق تبعية مباشرة للمساعدات

- إنتاج طبقات اجتماعية جديدة: تقسيم السكان إلى "متعاونين" و"مجرمين"

- تدمير البنى التضامنية التقليدية: استبدال شبكات الدعم المجتمعي بنظام توزيع مركزي

الأدوات التكنولوجية للسيطرة

- النظام البيومتري: تحويل الحصول على المساعدات إلى عملية مراقبة شاملة

- المراكز المركزية: ضبط نقاط التوزيع للتحكم في حركة السكان

- الشروط الأمنية: ربط البقاء البيولوجي بالخضوع السياسي

التداعيات الخطرة

محليا:

تحول النظام الاجتماعي: من مجتمع مقاوم متماسك إلى جماعات مفككة تعتمد على النظام الذي يحاربها للبقاء. هذا التحول يُضعف القدرة على المقاومة الجماعية ويخلق أدوات صراع داخلية.

إعادة تعريف الفاعلية السياسية: تحويل المواطنين من فاعلين سياسيين إلى مستفيدين سلبيين، مما يُقوض أسس المقاومة الشعبية.

إقليميا ودوليا

تآكل مبدأ الحياد الإنساني: النموذج الإسرائيلي يُهدد أسس النظام الإنساني الدولي ويفتح الباب أمام استخدامات مماثلة في صراعات أخرى.

إعادة تعريف قواعد الاشتباك: دمج المساعدات في الاستراتيجية العسكرية يخلق سابقة خطيرة قد تُحاكى في صراعات مستقبلية.

التحديات

خصخصة العمل الإنساني

إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" يمثل نموذجاً جديداً لخصخصة العمل الإنساني تحت غطاء أمني. هذا التطور يحمل مخاطر عديدة:

- تجارة المعاناة: تحويل الكارثة الإنسانية إلى مشروع ربحي

- فقدان المساءلة: غياب الرقابة الأممية التقليدية

- تسييس كامل للإغاثة: ربط المساعدات مباشرة بالأجندة السياسية

التداعيات الدولية

الموقف الأممي الرافض، رغم أهميته، يكشف عن محدودية القدرة على منع هذا التطور. هذا يطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية النظام الدولي في حماية المبادئ الإنسانية.

السيناريوهات المتوقعة

السيناريو الأول: النجاح الجزئي

إذا نجحت الاستراتيجية في تحقيق أهدافها، فإن النموذج قد يُصدر إلى مناطق صراع أخرى، مما يُهدد أسس العمل الإنساني عالمياً.

السيناريو الثاني: المقاومة والفشل

فشل النموذج أمام صمود المجتمع الفلسطيني قد يُعيد تأكيد قوة الروابط الاجتماعية التقليدية ويحد من انتشار هذه الممارسات.

السيناريو الثالث: التطبيع

أخطر السيناريوهات هو تطبيع هذا النموذج دولياً، حيث تصبح عسكرة المساعدات ممارسة مقبولة في إدارة الصراعات.

التوصيات:

تعزيز آليات الحماية: تطوير قوانين دولية أكثر صرامة لحماية حياد العمل الإنساني وتجريم استخدامه كأداة حرب.

مواجهة الخصخصة: وضع ضوابط صارمة على مشاركة الشركات الخاصة في العمل الإنساني، خاصة في مناطق الصراع.

بناء شبكات دعم بديلة: تطوير آليات إقليمية للدعم الإنساني تتجاوز القيود المفروضة من القوى المحتلة.

تعزيز الوعي: كشف حقيقة هذه الممارسات ومواجهة الخطاب الذي يُبررها إنسانياً.

ملخص

النموذج الإسرائيلي في استخدام المساعدات الإنسانية يمثل تطوراً خطيراً في مفهوم الحرب الحديثة، حيث تتحول الإغاثة من أداة إنقاذ إلى سلاح تفكيك اجتماعي. هذا التطور يتطلب استجابة دولية حازمة لحماية مبادئ العمل الإنساني ومنع انتشار هذا النموذج الذي يُهدد أسس النظام الإنساني الدولي.

النجاح في مواجهة هذا التطور لا يتطلب فقط إدانة أخلاقية، بل فهماً عميقاً لآلياته وتطوير استراتيجيات مضادة تحمي المجتمعات المستهدفة وتحافظ على مبادئ العمل الإنساني المحايد.

المصدر : متابعة-زوايا
atyaf logo