ملخص تنفيذي
تنفذ قوات الاحتلال الإسرائيلي خطة ممنهجة لإعادة تشكيل جغرافيا قطاع غزة، تهدف إلى فرض سيطرة أمنية مطلقة وتقليص مساحة القطاع بشكل دائم. عبر سلسلة من العمليات العسكرية، تم إنشاء مناطق عازلة واسعة في الجنوب والشمال والشرق، بالإضافة إلى إعادة السيطرة على محور استراتيجي يقسم القطاع. أدت هذه الإجراءات إلى اقتطاع ما يقارب 40% من أراضي غزة، وتفاقم الأزمة الإنسانية للسكان المحاصرين
1. الهدف الاستراتيجي: السيطرة الأمنية المطلقة وتغيير هوية غزة
تسعى القيادة الإسرائيلية إلى ضمان السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية الكبرى، مع استبعاد أي دور إداري أو أمني مستقبلي للفصائل الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية. يُنظر إلى الإدارة المدنية المحتملة من قبل جهات دولية كخيار مطروح، لكن الأولوية تبقى للسيطرة العسكرية الميدانية الإسرائيلية. هذا الهدف يترجم على الأرض عبر تغييرات جغرافية قسرية تهدف إلى خلق واقع أمني جديد يخدم المصالح الإسرائيلية.
2. الخطوة الأولى: ابتلاع رفح وتحويلها إلى منطقة عازلة جنوبية
شكل اجتياح مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع أولى الخطوات الملموسة في تغيير الخريطة. تم تطويق المدينة وعزلها، وإنشاء "محور موراغ" الذي ضم مساحات واسعة إلى المنطقة العازلة. تشير التصريحات والمعلومات الميدانية إلى أن هذه المنطقة، التي تبلغ مساحتها حوالي 75 كيلومترًا مربعًا (ما يقارب خُمس مساحة القطاع)، قد حُظرت بشكل دائم على الفلسطينيين، مما أدى إلى تهجير سكانها البالغ عددهم نحو 300 ألف نسمة. هذه الخطوة لا تقلص حجم غزة فحسب، بل تفصلها جغرافياً عن مصر وتُحكم السيطرة الإسرائيلية على حركة الأفراد والبضائع.
3. الخطوة الثانية: توسيع المنطقة العازلة شمالاً
لم تقتصر التغييرات على الجنوب، بل امتدت إلى شمال القطاع. صدرت أوامر بإخلاء مناطق في محافظة بيت حانون (تشمل بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا)، تلاها توغل عسكري حوّل الأراضي التي سيطرت عليها قوات الاحتلال إلى جزء من المنطقة العازلة الشمالية. تُقدر المساحة المقتطعة في هذه المرحلة بنحو 20 كيلومترًا مربعًا إضافيًا.
4. الخطوة الثالثة: تعميق المنطقة العازلة شرقاً
شهدت المناطق الشرقية للقطاع، خاصة أحياء الشجاعية والتفاح وجباليا، عمليات مماثلة تضمنت أوامر إخلاء وتوغلات عسكرية. تم توسيع المنطقة العازلة الموجودة أصلاً على طول الحدود الشرقية، مما أدى إلى اقتطاع ما يقدر بنحو 18 كيلومترًا مربعًا إضافيًا من أراضي القطاع.
5. الخطوة الرابعة: إعادة السيطرة على محور الفصل المركزي (نتساريم)
تمثل استعادة السيطرة على محور "نتساريم" الاستراتيجي في وسط غزة خطوة محورية أخرى. هذا المحور، الذي تقدر مساحته بنحو 18 كيلومترًا مربعًا، يقسم القطاع فعليًا إلى نصفين شمالي وجنوبي، ويعمل كممر عسكري حيوي لتسهيل تحركات القوات الإسرائيلية داخل غزة وفرض الفصل بين مناطقها.
6. التداعيات: تقلص جغرافي، حصار مشدد، وواقع إنساني كارثي
نتج عن هذه الإجراءات مجتمعة سيطرة القوات الإسرائيلية على ما يقارب 40% من مساحة قطاع غزة الأصلية (حوالي 142 كيلومترًا مربعًا من أصل 356). تقلصت المساحة المتاحة فعليًا للسكان البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى نحو 214 كيلومترًا مربعًا، تفتقر للبنية التحتية الأساسية والخدمات الحيوية كالمياه والكهرباء والمستشفيات والغذاء.
الأبعاد الإستراتيجية للتغييرات الجغرافية
إعادة تشكيل الديموغرافيا
تهدف التغييرات الجغرافية إلى:
- إحداث تغيير جذري في الواقع الجغرافي للقطاع
- تفكيك البنية الجغرافية من خلال تقسيمها إلى محاور
- إحداث تحولات ديموغرافية من خلال تهجير السكان من مناطقهم الأصلية
- دفع السكان نحو مساحة أصغر، مما يخلق ظروفاً إنسانية قاسية
السيطرة الأمنية والعسكرية
تُبرر هذه الإجراءات بأنها لأسباب عملياتية وأمنية، حيث:
- تسعى قوات الاحتلال لإحكام السيطرة على المناطق بطريقة تمنع إعادة تشكيل خلايا للفصائل.
- توسيع المناطق الأمنية العازلة لحماية غلاف غزة.
- الاستعداد للبقاء فترة طويلة في قطاع غزة.
- الحفاظ على ممرات استراتيجية تسمح بالتحرك السريع في جميع أنحاء القطاع وضمان السيطرة الأمنية.
التداعيات الإنسانية والجغرافية
تقلصت مساحة قطاع غزة من 356 كيلومتراً مربعاً إلى 214 كيلومتراً مربعاً فقط، مما خلق وضعاً إنسانياً بالغ التعقيد ينتج عنه:
- تكدس 2.3 مليون نسمة في مساحة صغيرة
- تدمير شامل للبنية التحتية والمباني السكنية
- انعدام الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وغذاء
- انهيار شبه كامل للنظام الصحي مع تدمير المستشفيات
7. وجهات نظر متباينة حول المستقبل:
تصف المصادر العسكرية الإسرائيلية هذه الإجراءات بأنها "لأسباب عملياتية" تهدف لتوسيع المناطق الأمنية وتسهيل السيطرة ومنع عودة المقاومة، مع الاستعداد لبقاء طويل الأمد في القطاع. في المقابل، تنظر الفصائل الفلسطينية إلى هذه التغييرات الجغرافية على أنها مؤقتة، وتؤكد على أن مطالبها الأساسية لوقف الحرب تشمل الانسحاب الكامل، وأن الواقع الجغرافي سيعود إلى ما كان عليه بانتهاء القتال.
خاتمة
تشير الدلائل الميدانية والتصريحات الرسمية إلى أن إسرائيل تنفذ خطة واضحة لإعادة رسم خريطة غزة بما يخدم أهدافها الأمنية طويلة الأمد. ينتج عن هذه الخطة تقليص كبير وملموس في مساحة القطاع، وعزله بشكل أكبر، وتفاقم الكارثة الإنسانية للسكان، مع فرض واقع جغرافي وديموغرافي جديد قد يكون من الصعب عكسه، رغم التباين في تقييم ديمومته بين الأطراف المعنية.