مشاهد مرعبة وإحصاءات صادمة، لأعداد المنازل المدمرة والمساكن المؤقتة في قطاع غزة، والتي عاد الكثير من أصحابها للاحتماء بين ركامها، واضطرار آخرين للنزوح مرة أخرى، ولا سيما بعد معاودة "إسرائيل" حرب الإبادة على غزة.
أمثلة كثيرة على معاناة هؤلاء النازحين بين ركام منازلهم أو في مناطق متفرقة من القطاع، ذلك بلا توفر أدنى احتياجاتهم الأساسية من الطعام والمياه والملابس، وبلا أي مظاهر معيشية في البنية التحتية وأي مقومات للحياة.
أمام هذا الواقع المرير في أزمة "السكن المؤقت"، تولدت أزمة أخرى، تمثلت في غلاء العقارات والإيجار وكذلك أسعار مواد البناء وانعدام إدخالها، في ظل إحكام حصار (إسرائيل) لغزة وإغلاقها للمعابر.
وبعد الحديث مع "الغزيين" المكتوين بكل ما سبق، "زوايا" تابعت التدخلات المؤقتة للإيواء والإغاثة من الجهات الحكومية والمؤسسات والنقابات المعنية والمبادارت. وكذلك التعريج على وعودات الإعمار ومدى واقعيتها السياسية "المبهمة" في الوقت الراهن.
النازحون..أين يذهبون !؟
في خضم التهديدات الإسرائيلية المتكررة بالعودة للاجتياحات البرية لغزة، وفي ظل التحذيرات الفعلية للمواطنين بالإخلاء والنزوح القسري من مناطق عدة في شمال ووسط وجنوب القطاع، فإن هؤلاء باتوا عاجزين عن تحديد وجهتهم للنزوح، الأمر الذي يدفع الكثيرين منهم إلى تعريض حياتهم للخطر ويتساءلون "أين يذهبون!؟".
فبعد نحو شهرين من عودة ما يزيد عن مليون فلسطيني نازح إلى مناطقهم ومحاولة لملمة شعثهم بين ركام منازلهم وفي مراكز الإيواء والخيام المؤقتة، غداة اتفاق وقف إطلاق النار المُوقع بين المقاومة الفلسطينية و(إسرائيل) برعاية الوسطاء مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، فقد عاودت -إسرائيل- لمسلسل القصف العنيف والتهجير القسري للمواطنين والحصار المطبق على غزة.
وبلغة العاجز عن التعبير، ضرب كفيه بعضهما البعض المواطن الخمسيني "صلاح العطار" وأجهش بالبكاء، ذلك عند سماعه نبأ الإخلاء الجديد لمنطقة سكنه بيت لاهيا شمال قطاع غزة، والعائد إليها مؤخراً من جنوب القطاع.
وخوفاً على من نجى من أسرته وعائلته التي استشهد منها خمسة من أقاربه اللزم، فإنه سيضطر لإجلاء النساء والأطفال ومن يرغب من أبنائه الشباب بمرافقتهم، أما بالنسبة له فقال " لو تنطبق السماء على الأرض ما بطلع من بيتي، بموت تحت الركام ولا برجع أنزح بعيد عن روحي".
أما "محمد العطل- ٤٢ عام" فقد تعمد تأخير عودة أسرته النازحة من شمال القطاع إلى وسطه، ذلك حتى يجهز لهم سكن مؤقت عبارة عن خيمة من الشوادر البلاستيكية، نصبها وسط ركام منزله المدمر كليا بجانب مستشفى كمال عدوان في مشروع بين لاهيا شمال القطاع.
وما هو إلا اسبوع واحد فقط بعد التئام شمل اسرت العطل، حتى جاءت أوامر إخلاء جديدة لمنطقته، الأمر الذي جعله في حيرة من أمرة، لكنه -كما قال- أنه سيضطر للنزوح مرة أخرى، ولكن هذه المرة لمدينة غزة، تحسباً من تقطيع أواصل القطاع كما حدث بداية الحرب.
يضيف العطل، أنه تعب كثيراً في تنظيف وإزاحة جزءاً من أنقاض وركام منزله، حتى يضع مكانه خيمة بحمام لا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار، مردفاً " للأسف سأكون مضطراً لفكفكة الخيمة ونقلها وسيكلفني ذلك مبلغاً إضافياً من المال لا أقوى عليه في هذه الظروف الصعبة".
وليس حال المواطن "أبو ثائر المدينة" أقل وجعاً من سابقيه، بالحديث عن رحلة نزوحه التي تنقل فيها لأكثر من خمس مرات بين جنوب القطاع ووسطه، ولكن المختلف عنهما، أنه حين عودته إلى بيته في حي الشيخ رضوان وسط مدينة غزة، وجده مهدوماً جزئياً، وكان بإمكانه إصلاح غرفة للسكن فيها بشكل مؤقت وغير آمن، إلى حين البدء بالإعمار.
وبشكل لافت، فقد تكررت حوادث الإصابات وربما وفيات لمواطنين من جراء انهيار أجزاء من منازلهم او المنازل المجاورة المدمرة، الأمر الذي يشكل خطراً عاماً في قطاع غزة، بسبب التأخر في إزالة ما أمكن من الركام وفتح بعض الشوارع والإعادة لو الجزئية للبنية التحتية من قبل الجهات المحلية، وذلك كله سابق لمجرد الحديث عن إعمار غزة.
أين المساعدات؟
كما تشتكي بعض المناطق في قطاع غزة، من التهميش وقلة وصول المساعدات والإغاثات العاجلة لهم، ذلك لإعانتهم على الصمود وتوفير أدنى احتياجاتهم الأساسية أو متطلباتهم المعيشية بين ركام منازلهم الذي عادوا إليه بعد رحلة النزوح التي قاسوها. علماً أن ذلك تحول في مناطق من مدينة غزة إلى احتجاجات مطلبية للمواطنين خرجوا للتعبير عنها في الشوارع.
استغلال دون رقابة
وأمام هذا الواقع المرير في أزمة "السكن المؤقت" وشح الخدمات، تولدت أزمة أخرى، تمثلت في غلاء العقارات والايجارات، وكذلك أسعار مواد البناء وانعدام إدخالها، في ظل إحكام حصار (إسرائيل) لغزة وإغلاقها للمعابر.
وحول ذلك، فقد اشتكى الكثير من المدمرة بيوتهم والنازحين من عدم مقدرتهم على استئجار شقق ومساكن مؤقتة بسبب قلتها أو الغلاء واستغلال بعض السماسرة حاجة الناس للإيجار، حيث يؤكد بعضهم - على مواقع التواصل الاجتماعي- إلى أن رحلة البحث عن منزل للإيجار أصعب من رحلة البحث عن خيمة في مآوي النزوح، فضلاً عن غلاء الأسعار في كل الأصناف والأشياء.
وبالخصوص، كتب د. محمد بن يحيى سكيك على صفحته "فيسبوك" ما قال أنها نصيحة وبينة لمن كان له قلب أو ألقى السمع فقال "في فترة الحرب كنا نأمل أن يكون هناك سيطرة على السوق المحلي من قِبل ما تُسمّى الجبهة الداخلية. لكن كنا نعذرهم في عدم قدرتهم على السيطرة على ما يحدث من غلاء واحتكار وسرقة ونهب بسبب استهدافات العدو المتواصلة".
وأضاف "أين أنتم من ارتفاع إيجارات الشقق والمنازل والمحلات؟، أين أنتم من ارتفاع أجرة المواصلات بشكل مهول؟ لتصل إلى 5 أضعاف ما كانت عليه!، أين أنتم من ارتفاع سعر الخبز في السوق السوداء؟، أين أنتم من ارتفاع سعر المياه العادية؟ حتى المياه لا نستطيع توفيرها إلا بشق الأنفس وبمبالغ عالية!، أين أنتم ارتفاع سعر الغاز والسولار في السوق السوداء؟، أين أنتم من ارتفاع أجرة مولدات الشوارع للكيلو الواحد ٢٥ شيكل؟!، أين أنتم من ارتفاع عمولة سحب الفلوس من البنوك؟ لتصل إلى ربع المبلغ!".
وتابع سكيك "أنتم تتركون الذئاب البشرية والكلاب الجائعة تنهش بلحم شعب ضعيف الحال، منهك الجيب، مكلوم، مهموم، مدمَّر بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
مباني آيلة للسقوط
ولم يسلم العائدون إلى الركام من انهيار أجزاء من المباني المهدمة و والطرقات المدمرة وخلافه من آثار العدوان.
هناك فقد حذرت الجهات الحكومية في غزة، من انهيار مئات المباني الآيلة للسقوط جراء قصفها أو حرقها من قبل الاحتلال خلال الحرب، بما تشكله من خطر داهم على حياة آلاف المواطنين الذين يعيشون داخلها أو في محيطها.
يذكر أنه في السابع عشر من مارس الجاري، حدث إنهيار مبنى في منطقة الفاخورة بمعسكر جباليا شمال قطاع غزة، حيث أن -المبنى المذكور- يتكون من ثلاثة طوابق، ولولا العناية الإلهية لكان هناك فاجعة لوجود عشرات يقطنون المنزل المنهار.
بدورها، أعلنت الطواقم الفنية لوزارة الأشغال العامة والإسكان والدفاع المدني في غزة، أنها تتابع فحص المباني والأبراج المقصوفة، حيث تم تحديد 220 مبنى آيل للسقوط حتى الآن، وجرى إخلاء ساكنيها وتحذير المحيطين بها.
يأتي ذلك في ظل استمرار الحصار ومنع إدخال المعدات والآليات الثقيلة، وتأخر عملية إعادة الإعمار، الأمر الذي يعيق مساعي تحييد خطر هذه البنايات، ويؤخر جهود توفير المأوى البديل لساكني هذه البنايات، ما يضطر المواطنين للبقاء في هذه المباني، رغم كونها مهددة بالانهيار في أي لحظة.
إحصاءات صادمة
وحول أزمة السكن المؤقت في غزة قبل إعادة الإعمار، فقد تحدث إسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، أن عدد المساكن المدمرة كلياً أو بليغاً غير صالح للسكن تجاوز 280,000 وحدة سكنية، فيما أن عدد المساكن المدمرة جزئيًاً هي نحو 160,000 وحدة سكنية تحتاج إلى ترميم وإصلاح بدرجات متفاوتة.
وتطرق الثوابتة في حديث الخاص لـ"زوايا" إلى حركة السكان بين النزوح والعودة، مشيراً إلى عدد السكان العائدين نحو 700,000 مواطن عادوا إلى مناطقهم، لكن غالبيتهم يواجهون ظروفاً معيشية قاسية نظراً للدمار الكبير وشحّ الخدمات الأساسية.
وأوضح الثوابتة أن عدد النازحين حتى الآن أكثر من 1.4 مليون فلسطيني لا يزالون مشردين، معظمهم في ظروف بالغة الصعوبة داخل مراكز الإيواء أو في خيام مؤقتة.
وبما يخص واقع مراكز الإيواء والخيام، فقد ذكر الثوابتة أن عدد مراكز الإيواء أكثر من 543 مركزاً، معظمها في المدارس والمرافق العامة، لكنها تعاني من اكتظاظ شديد ونقص في الخدمات الأساسية، لافتاً إلى أن عدد الخيام الموجودة في قطاع غزة حوالي 150,000 خيمة، اهترأ منها وأصبح خارج الخدمة أكثر من 110,000 خيمة، حيث أن هذه الخيام منصوبة منذ أكثر من سنة كاملة للنازحين.
وأضاف: بطبيعة الحال هذه الخيام لا توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، خاصة مع قلة المياه والطعام وضعف البنية التحتية الصحية.
ورغم التحديات الكبيرة والحصار الخانق، فقد ذكر الثوابتة، أن لجان الطوارئ الحكومية استطاعت تنفيذ عدة استجابات عاجلة لدعم المواطنين في ظل الظروف الراهنة، لكنها عبارة عن "نقطة في بحر من الاحتياجات، حيث أن الواقع في قطاع غزة أصبح واقعاً كارثياً".
خدمات صفرية
وبشئ من التفصيل، حول المساعدات الغذائية، فقد أوضح الثوابتة أن الناس بحاجة إلى أكثر من 7 مليون وجبة يومياً، وهذا غير متوفر، مطالباً بتعزيز جهود الإغاثة العاجلة للنازحين.
أما بما يخص المياه والصرف الصحي، فقد أردف الثوابتة أن الناس بحاجة إلى أكثر من 9 مليون لتر من الماء يومياً، وهذا غير متوفر، وكذلك المياه غير صالحة للشرب، مما ينذر بكارثة حقيقية.
وعلى صعيد الخدمات الصحية، فإن الناس-حسب الثوابتة- بحاجة إلى مستشفيات ومراكز طبية ومنظومة صحية لتقديم الخدمة لأكثر من نصف مليون مريض وجريح بحاجة ماسة إلى العلاج والأدوية، كما أنهم بحاجة إلى المستلزمات الطبية الطارئة، وهذا غير متوفر أيضاً.
وحول إعادة تأهيل البنية التحتية، شدد الثوابتة على أن قطاع غزة بحاجة إلى تنفيذ إصلاحات شاملة في الطرق الرئيسية، ورفع 55 مليون طن من الركام لفتح الطرق وإعادة تشغيل الخدمات الأساسية.
وتطرق إلى أكثر من ربع مليون رب أسرة فقدوا أعمالهم ووظائفهم خلال حرب الإبادة الجماعية، وبالتالي هؤلاء بحاجة إلى مساعدات نقدية تفوق 24 مليون دولار يومياً وهذا غير متوفر، وبالتالي هم بحاجة إلى منح مالية عاجلة لمساعدتهم على تلبية الاحتياجات الأساسية.
وختم الثوابتة حديثه بالقول: ما يزال قطاع غزة يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة، في ظل إغلاق جميع معابر قطاع غزة، والتأخر المتعمد في إعادة الإعمار واستمرار سياسة العقاب الجماعي من قبل الاحتلال.
وأضاف الثوابتة: الوضع الإنساني يزداد سواً، مما يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً لفتح المعابر، وتأمين مواد الإغاثة، والشروع في عملية إعادة الإعمار فوراً.
من نزوح إلى نزوح
وبعد خرق الاتفاق وعودة الحرب، تحول ما نسبته 37% من قطاع غزة إلى مناطق محظورة، حيث أن تصاعد العدوان الإسرائيلي يفاقم معاناة المدنيين ويزيد من حجم الدمار.
واللافت في أوامر النزوح الأخيرة، إجبار المواطنين على النزوح سيراً على الأقدام، حيث لم يمهلهم الوقت الكافي لنقل خيامهم أو بعضاً من أمتعتهم، وهو ما حصل مؤخراً في منطقة تل السلطان برفح جنوب القطاع، حيث قامت قوات الاحتلال بمحاصرة المئات داخل منازلهم بلا توفر أي مقومات للحياة وانقطاع الاتصال بهم دون تمكن طواقم الاسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم لاجلاءهم وانقاذهم من القصف والحصار المفاجئ.
وفي السياق، قالت بلدية رفح، إن حي "تل السلطان" في المحافظة يتعرض لإبادة جماعية، حيث لا يزال آلاف المدنيين، بينهم أطفال ونساء وكبار سن، محاصرين تحت نيران القصف الإسرائيلي العنيف، دون أي وسيلة للنجاة أو إيصال استغاثاتهم للعالم.
إعمار مبهم
وفي ضوء ما سبق، يعترف الكثير من السياسيين والمراقبين، أنه أمام هذا الحال المأساوي في قطاع غزة " لا حلول واقعية للإعمار تلوح في الأفق، طالما استمرت الحرب وبقي الوضع السياسي متأزماً".
وذكر الكاتب والمحلل الاقتصادي محمد أبو جياب لـ"زوايا" أن عملية معقدة مؤرقة في قطاع غزة تتمثل في مجرد الإيواء المؤقت للسكان المدمرة بيوتهم والنازحين، فما بالنا بعقدة عملية إعادة الإعمار الشامل القطاع؟.
وأشار أبو جياب، إلى أن المرحلة الآن تستدعي التدخل العربي والدولي لإغاثة الناس في غزة لتوفير الغذاء والإيواء من خلال توفير مساكن مؤقتة وكرفانات تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، عاداً أن ظروفاً قاهرة ومتجددة يعانيها الناس في غزة، وخاصة مع تجدد العدوان الإسرائيلي عليهم.
وتطرق أبو جياب إلى أن عملية اعمار غزة، ستبقى معلقة ومرتبطة بالملف السياسي ووقف إطلاق نار وهدنة طويلة الأمد في القطاع، لافتاً إلى أن بعد كل ذلك ستكون هناك معضلة كبيرة تتمثل في القدرة على تسويق الخطة العربية لإعادة إعمار غزة وجلب التمويل اللازم لتنفيذ هذه الخطة في أقرب وقت ممكن.
يذكر أن القمة العربية تبنت الخطة المصرية المقدمة للولايات المتحدة حول اليوم التالي في قطاع غزة، والتي تتضمن إعادة إعمار القطاع خلال خمسة أعوام دون الحاجة إلى ترحيل سكانه.