كثيرة هي التقارير التي تحدثت عن "المرأة الغزاوية" وفقدان عشرات الآلاف من النساء أرواحهن أو فلذات أكبادهن، وبلوغ ذلك حداً يصعُب وصفه بالكلمات عن المعاناة والظروف القاسية التي صاحبت السواد الأعظم من النساء أثناء حرب الإبادة الجماعية التي ما زالت تشنها (إسرائيل) على قطاع غزة لأكثر من عام ونصف.
لكن أياً من هذه التقارير لم تُجب على السؤال الأهم والأكبر "كيف ومتى تتعافى المرأة الغزاوية من هذه الحرب وتبعاتها؟"، في ظل أنها فقدت السند والمعيل لها ولأسرتها، وبما يشكله كل ذلك من جرح غائر لا يندمل بسهولة، طالما بقيت الجهات الراعية والمؤسسات الحكومية والأهلية عاجزة أو متأخرة عن القيام بواجبها.
إحصاءات
قبل الولوج في التفاصيل، يجدر الإشارة إلى آخر الإحصائيات الصادرة عن المكتب الإعلام الحكومي بغزة، والتي تزامنت مع مناسبة اليوم العالمي للمرأة في الثامن من آذار/مارس للعام الجاري. فقد قتل جيش الاحتلال (الإسرائيلي) 12316 شهيدة من النساء بدم بارد، و 13901 امرأة ترملت وفقدت زوجها ومعيل أسرتها، إضافة إلى 50 ألف امرأة حامل وضعن مواليدهم في ظروف غير انسانية، و 17 ألف أم ثكلت بفقدان أبنائهن.
أيضاً اصيبت 162 ألف امراه بأمراض معدية، و 2000 امرأة وفتاة ستلازمهن الإعاقة جراء بتر أطرافهن، إضافة إلى اعتقال عشرات النساء وتعرضهن للتعذيب داخل المعتقلات.
وبخصوص الأسيرات، تشير بيانات هيئة شؤون الأسرى، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يعتقل 56 سيدة في سجونه، بواقع 44 من الضفة الغربية المحتلة، و3 من قطاع غزة، و9 من داخل أراضي الـ48، منهن 5 معتقلات صدرت بحقهن محكوميات، و40 معتقلة موقوفة، و11 معتقلة قيد الاعتقال الإداري. وبين المعتقلات القابعات في سجون الاحتلال هناك قاصرتان.
وفي سياق متصل، ذكر سلامة معروف على منصة X أن 24 صحفية قتلهن جيش الاحتلال خلال حرب الابادة على غزة، حيث لم يشفع لهن كونهن نساء أمام الجيش المجرم، كما لم تحمهن حصانة صحفية أمام الكيان القاتل.
وأشار معروف إلى أن جرائم قتلهن تمثل جرائم ضد القانون الدولي الإنساني، وتمت على مرأى ومسمع العالم الحر الذي يتشدق بحقوق المرأة، ومنظمات الدفاع عن حقوق الصحفيين، ورغم ذلك لم تتجاوز المواقف بيانات الشجب والإدانة التي تقطر نفاقاً وازدواجية في غالبها أو عجزاً واستسلاماً في بعضها.
#يوم_المراه_العالمي..
— سلامة معروف غزة Salama Maroof Gaza (@salama1977) March 8, 2025
٢٤ صحفية قتلهن جيش الاحتلال الصهيونازي خلال #حرب_الابادة على غزة، لم يشفع لهن كونهن نساء أمام الجيش المجرم، كما لم تحمهن حصانة صحفية أمام الكيان القاتل.
جرائم قتلهن تمثل جرائم ضد القانون الدولي الإنساني، وتمت على مرأى ومسمع العالم الحر الذي يتشدق بحقوق…
ولاحقاً -خلال إعداد التقرير- تم الإعلان عن استشهاد الصحفية آلاء أسعد هاشم متأثرة بإصابتها في قصف إسرائيلي سابق على مدينة غزة.
تفاصيل مؤلمة
كم كبير من الجرائم الإسرائيلية المروعة والمشاهد المؤلمة، التي مُنيت بها المرأة الغزاوية خلال حرب الإبادة والتشريد، ومن جملتها ما أصابها من ألم الفقد والتعذيب والتجويع والتعطيش وانعدام الرعاية الصحية، فضلاً عن إحلالها مكان الرجل في كثير من المواقف.
ومن جملة الأمثلة، فقد تجرعت فاطمة عبد الوهاب، مرارة فقد أمها وابنها الوحيد "أشرف- عام ونصف" وأصيب جميع أشقاءها الثلاثة بإصابات متفاوتة، ذلك في قصف إسرائيلي لمنزلها بحي الدرج بغزة، وقبلها بشهر واحد فقط، فقدت أيضاً زوجها "محمد" في مجزرة المستشفى المعمداني وسط المدينة.
تقول فاطمة: نفاذ حليب إبني أشرف اضطرني للخروج والبحث المستميت رغم شدة القصف، وما هي إلا ساعة واحدة، عُدت إلى البيت لأجده مقصوفاً بمن فيه، هُرعت إلى المستشفى وكانت الفاجعة التي ألمت بي حتى يومي هذا. وتضيف: راح إبني وراحت أمي وقبلهما زوجي وما عاد لحياتي بعدهم أي معنى.
أما حنان ارحيم، فقد ذاقت ألم فقد ابنها الأكبر "جودة" الذي استهدفته طائرة استطلاع مع مجموعة من أقاربه في فناء منزلهم شمال قطاع غزة، حيث كان الأقسى عليها أنها لم تُلقِ عليه نظرة الوداع، ذلك بسبب تقطيع أوصال المدن ونزوحها هي وبناتها الخمسة في مدينة دير البلح وسط القطاع.
تصف حنان ابنها الشهيد بـ"السند الشهم" لمبادراته الخيرية تجاه أقاربه وجيرانه خلال الحرب وقبلها، وكذلك رفضه الزواج إلا بعد الانتهاء من تعليم شقيقاته في الجامعات، حيث كانت تُعده المعيل الوحيد للأسرة، والآن تعيش ظروفاً قاسية دون أي مقومات للحياة.
وتأمل "حنان" أن يتوفر لها مصدر دخل بسيط، يعينها على تربية البنات والعيش حياة كريمة، مشيرة إلى أنها تتابع مع بناتها بشغف، الإعلان عن أي مبادرات تشغيلية خاصة بالنساء علها تحظى بمشروع صغير.
وحال العشرينية إسلام الشيخ، ليس أقل مرارة من سابقاتها بعد استشهاد زوجها وثلاثة من أشقائه وأمهم في قصف منزل عائلتها الذي نزحوا إليه في حي البرهامة بغزة، فهي تقوم الآن بإعالة طفليها التوأم "شفيق ومها" اللذان لم يتجاوز عمرهما الخمسة أعوام، حيث عبرت عن رغبتها في طرق باب المؤسسات الحكومية والأهلية علها تجد ضالتها في تبني مصاريف طفليها اليتمين.
في حين ذكرت العشرينية "س.م" أنها بالفعل توجهت للعديد للجمعيات والمؤسسات لأجل رعاية أطفالها الأيتام الثلاثة، وأن كل ما تلقته هو مجرد وعودات ليس أكثر، منوهة إلى أن والدهم استشهد مطلع العام الجاري متأثراً بجراجه التي أصيب بها منذ بداية الحرب.
ولم تخفِ المذكورة، أن والديها يحثانها على الزواج -كما يقولون-قبل فوات قطار حياتها، لكن رفضها القاطع نابع من خوفها على تشتت أولادها الأيتام وعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم في المستقبل.
وخلافاً لمن سبقتها، فقد ذكرت "ن.أ" أنه جاءتها العديد من عروضات الزواج بعد استشهاد زوجها، لافتة إلى أن عمرها لا يتعدى الخامسة والعشرون وأنها ترغب في هذا الأمر، ذلك لضمان تلبية حياة كريمة لطفلها الوحيد.
مبادرات
وفي هذا الإطار، تقول المبادرة منيرة شاهين وهي زوجة شهيد لـ"زوايا"، أنها تتابع مجموعة من زوجات الشهداء في منطقتها، وذلك ضمن "قروب" يضم نحو 400 زوجة شهيد، حيث يقمن من خلال المجموعة بالتطرق للعديد من المشكلات التي تواجهن من أجل الحل والمساعدة فيما بينهن، لافتة إلى نسبة بسيطة جداً من تعرضن للضغط من العائلة للزواج والتخلي عن رعاية الأولاد لصالح أهل الزوج المتوفي.
لكن شاهين ترى أنه لا مانع من الزواج إذا كان لدى المعنية الرغبة في ذلك، شريطة أن تكون الظروف مناسبة جداً، منوهة إلى أنه حتى أمام هذه الرغبة تصطدم زوجة الشهيد برفض أهل زوجها هذا الأمر بالبتة.
وحول المشاريع المناسبة للفاقدات، فقد ذكرت شاهين أنه لم تبادر أي جهة للتواصل معهم بخصوص تشغيل زوجات الشهداء في منطقتها، لافتة إلى أن هذه المشاريع يجب أن تخضع لمعايير تراعي المستوى التعليمي والاجتماعي والتخصصات والمواهب لكل سيدة على حدة، كما يجب مراعاة توفر أدوات التشغيل والمواد الخام في ظل إغلاق المعابر.
أما المبادر محمود كلخ، فقد قام منذ بداية الحرب بإقامة مركز إيواء خاص بزوجات الشهداء والأيتام في مدينة خان يونس، كما وضع نواة لمركز إيواء آخر في رفح، في حين يفكر في تصور لإقامة مركز إيواء جديد في المنطقة الوسطى، مشيراً إلى أنه يسعى من خلال ذلك إلى لملمة بعض جراح ذوي الشهداء وتوفير حياة كريمة لهم، وذلك من خلال فاعلين الخير داخل فلسطين وخارجها.
حلول عكسية
بدورها، كشفت ريم منصور محامية وباحثة حقوقية لـ"زوايا"، أنه مع تفاقم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تُصبح النساء أكثر عرضة للعنف الأسري نتيجة التوتر المتزايد داخل الأسر، مشيرة إلى أن بعض العائلات قد تلجأ إلى تزويج زوجات الشهداء أو الفتيات في سن مبكرة، كحل اقتصادي في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
كما أن العدوان الإسرائيلي-حسب منصور- ترك آثاراً نفسية عميقة على النساء، فالكثير من النساء يواجهن اضطرابات ما بعد الصدمة، خاصة الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن أو اللواتي أصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن، مبينة أن العدوان لم يقتصر على الأضرار المباشرة، بل تسبب في أزمة اقتصادية خانقة، حيث فقدت آلاف النساء مصادر دخلهن بسبب تدمير الأسواق والمصانع والمشاريع الصغيرة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين النساء.
وذكرت منصور أن استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمنظومة الصحية في قطاع غزة، أدى إلى انهيار شبه كامل للقطاع الصحي، وقد انعكس ذلك بشكل خطير على النساء، خاصة النساء الحوامل والمرضعات، حيث تعاني آلاف الحوامل من عدم القدرة على تلقي الرعاية الطبية اللازمة أثناء الحمل أو الولادة، مما يعرضهن لخطر الوفاة أو المضاعفات الصحية الحادة.
بالإضافة إلى ذلك -تضيف منصور- أن تدمير منظومة الصحة، أدى إلى نقص الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية، مما جعل النساء المصابات جراء القصف الإسرائيلي يواجهن صعوبة في تلقي العلاج اللازم، في ظل انعدام الخدمات الطبية المتخصصة.
وأمام كل ما سبق، ترى منصور أنه يجب أن يكون هناك تحرك دولي عاجل لضمان حماية النساء الفلسطينيات من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، وفق القوانين الدولية ذات الصلة، داعية إلى الضغط على المجتمع الدولي لتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة للنساء الفلسطينيات، خاصة في قطاع غزة، وتأمين الاحتياجات الأساسية لهن.
وركزت منصور على أهمية تعزيز دور المؤسسات النسوية في الدفاع عن حقوق المرأة الفلسطينية، والعمل على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي للنساء المتضررات من العدوان.
جهود خجولة
وحول دور الجهات الحكومية في إعانة ودعم النساء المكلومات بشكل عاجل لتوفير حياة كريمة لهن، فقد ذكرت أميرة هارون وكيل وزارة شؤون المرأة في حكومة غزة في حديث مقتضب لـ"زوايا" أن أساس عمل وزاراتها وضع السياسات والمتابعة مع الوزارات ذات العلاقة مثل التنمية الاجتماعية والزراعة والاقتصاد، وكذلك مع الجهات الممولة والداعمة للمرأة الفلسطينية، من أجل التدخل العاجل في هذا المضمار.
ولفتت إلى أن المشاريع المتداولة حالياً غالبيتها إغاثي مثل المساعدات والطرود الغذائية وحقائب الكرامة، فضلاً عن مشاريع الدعم النفسي، منوهة إلى أنه إذا توفر التمويل اللازم لدعم مشاريع صغيرة قائمة أومستحدثة لفئات زوجات الشهداء وذويهن وللنازحات في مراكز الإيواء ومخيمات النزوح، فإن هناك مشكلة كبيرة تتمثل في أن مواد التشغيل والمواد الخام مفقودة في الأسواق بسبب إغلاق المعابر ومنع إدخال الكثير منها.
أما أمجد الشوا رئيس شبكة المنظمات الأهلية، فقد ذكر لـ"زوايا" أن معاناة المرأة الفلسطينية في غزة كانت مضاعفة، حيث النسبة الأكبر من الشهداء كانت من النساء والأطفال، فضلاً أن عن الاستهداف كان متعمداً لواقع المرأة، حيث هناك مئات النساء اللاتي بتن يقدن أسرهن والتعويل على الحصول على أبسط الرزق.
ولفت إلى أن المرأة قامت بدور كبير في تعزيز الصمود وفي صناعة نموذج جديد في الواقع الفلسطيني والكارثة المستمرة، عاداً أ، هناك تركيز كبير في برامج المؤسسات الأهلية على النساء بشكل خاص سواء فيما يتعلق بالدعم النفسي والحماية وأيضاً البرامج الصحية وتوفير بعض الاحتياجات الخاصة للنساء مثل حقيبة الكرامة.
وبما يخص برامج التشغيل، فقد أوضح أنهم في مرحلة الاستجابة الإنسانية الطارئة والتي هدفها إنقاذ حياة السكان، مشيراً أن هناك بعض المبادرات للتصنيع الغذائي وبعض المشاريع البسيطة، حيث اعتبرها مبادرات أولية وتحتاج إلى دعم وتطوير كبير، وهذا شبه مستحيل في ظل فقدان الكثير من مقومات عملية التشغيل والمواد الخام.
وأضاف الشوا بالخصوص، أنهم في شبكة المنظمات الأهلية، قدموا ورقة موقف حول الإعمار، يتم من خلالها إيجاد فرص عمل وتشغيل أكبر عدد من النساء، ولاسيما أن هناك برامج تشغيلية تراعي النساء اللاتي فقدن أزواجهن ويعلن أسرهن، وكذلك اللاتي تعرضن للإصابة أو الإعاقة.
أما كل ذلك، فقد تكشفَ بعد الحرب على غزة، أنه كان ينتظر المرأة الغزاوية مستقبلاً معقداً يتسم بالتحديات الصحية والنفسية، حيث من المتوقع زيادة مستويات التوتر والاكتئاب، مع انعدام فرص العمل للنساء، الأمر الذي يتطلب جهوداً من أجل إعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الشبكات الاجتماعية. كما تحتاج النساء إلى رعاية طبية فورية وبرامج دعم نفسي للمساعدة على تخطي آثار الحرب وتحسين جودة حياتهن.