لطالما شكّلت العلاقة بين حركة "حماس" والولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أعقد القضايا في سياق التفاعلات الدولية تجاه القضية الفلسطينية.
العلاقة بين الحركة وواشنطن، ومن خلفها عدد من العواصم الغربية، شهدت تحوّلات لافتة تكشف عن تغيّر تدريجي في طريقة التعاطي الدولي مع الحركة التي ظلت لعقود تُصنّف ضمن قوائم "الإرهاب"
ومع تصاعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وانكشاف العجز الدولي عن فرض تسوية ميدانية أو سياسية دون إشراك الفاعلين الحقيقيين على الأرض، بدأت تتبلور ملامح مقاربة جديدة تتعامل مع حماس كرقم سياسي يصعب تجاهله أو تجاوزه في أي ترتيبات إقليمية مستقبلية.
اللقاءات التي جرت مؤخراً بين قيادات من الحركة ومبعوثين أميركيين في العاصمة القطرية الدوحة، فتحت الباب واسعاً أمام تحليل أبعاد هذا التحول ودلالاته، وسط تساؤلات مشروعة: هل نحن أمام تغير تكتيكي مؤقت تمليه ضرورات المرحلة، أم أن واشنطن بدأت تدرك فعلاً أن الحل في غزة لا يمكن أن يتحقق دون شراكة مع حماس؟
علاقة حماس بالغرب.. المفاجأة والكواليس
القيادي في حركة حماس الدكتور أحمد يوسف أكد في رؤية تحليلية أن الانفتاح الغربي على حماس لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج مسار طويل من التراكمات التي بدأت بعد الانتخابات التشريعية عام 2006، حين أدرك العديد من الدوائر الغربية أن الحركة لا يمكن عزلها عن المشهد الفلسطيني.
يشير يوسف إلى أن الصحافة الغربية لعبت دوراً مبكراً في إعادة تقديم صورة حماس للرأي العام الأوروبي والأميركي، عبر تغطيات ميدانية رصينة من داخل غزة، بعكس الصورة النمطية التي رسّختها الدعاية الإسرائيلية.
ويضيف أن الحركة من جانبها أبدت، عبر مبادرات عدة، انفتاحاً حذراً على فكرة الحوار، أبرزها ما طرحه هو شخصياً في مبادرة "رؤية جنيف"، التي أكدت استعداد حماس للتعاطي السياسي دون التنازل عن ثوابتها الوطنية.
ويؤكد يوسف أن اللقاءات الأخيرة بين مسؤولين أميركيين وقيادات من الحركة ليست مفاجئة، بل تمثل امتداداً لجهود تواصل غير رسمية كانت تُدار منذ سنوات، شملت لقاءات مع مراكز بحثية ومبعوثين دوليين مقربين من دوائر القرار في واشنطن.
ويختم يوسف بالقول إن التغيرات الحالية تفتح المجال أمام إعادة تعريف العلاقة بين حماس والغرب، وأن أمام الطرفين فرصة لإعادة صياغة مقاربة أكثر واقعية بعيداً عن شروط الإقصاء المسبقة.
واشنطن تتحسس الطريق من جديد
أما الكاتب ووزير الثقافة الأسبق في الحكومة المحسوبة على حركة فتح عاطف أبو سيف، فيقدم قراءة أكثر تحفظاً تجاه اللقاءات الأخيرة، ويرى أنها لا تمثل تحولاً استراتيجياً في سياسة الولايات المتحدة بقدر ما تعكس محاولة تكتيكية لفهم الواقع الجديد في غزة بعد الحرب.
ويرى "أبو سيف" أن واشنطن ما زالت أسيرة لرؤيتها التقليدية في التعامل مع القضية الفلسطينية، إذ تربط أي انفتاح على حماس بثلاثة شروط مسبقة: الاعتراف بإسرائيل، نبذ المقاومة المسلحة، والانخراط في مسار تفاوضي يُدار وفق محددات اتفاق أوسلو.
ويؤكد أبو سيف أن هذه الشروط تعكس رؤية غير واقعية، تتجاهل طبيعة الحركة وتكوينها الأيديولوجي والسياسي.
ورغم ذلك، يُقرّ أبو سيف بأن لقاءات الدوحة تحمل بعض الدلالات المهمة، وتعيد إلى الأذهان اللحظة السياسية التي سبقت انفتاح واشنطن على منظمة التحرير الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، لكنه يُحذر من الإفراط في التفاؤل، ما لم تُترجم هذه اللقاءات إلى مراجعات حقيقية في البنية الفكرية للسياسات الأميركية تجاه القضية الفلسطينية.
الانقسام يضعف الموقف الفلسطيني
أما الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري فيتناول التحول الأخير في السياسة الأمريكية بفتح حوار مع حماس، رغم تصنيفها كحركة إرهابية منذ عقود.
ويشير إلى أن هذه الخطوة قد تكون نتيجة اتصالات سرية جرت في عهد الرئيس بايدن، والتي ربما كانت أحد أسباب اغتيال القيادي في حماس إسماعيل هنية، ومع ذلك، يؤكد الكاتب أن هذا التفاوض لا يعني تغييرًا في الأهداف الأمريكية أو الإسرائيلية، بل هو محاولة لتحقيقها بوسائل أخرى.
ويُحذر الكاتب من أن الأهداف الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا تشمل نزع سلاح حماس، وتغيير نظام الحكم في غزة، وتعزيز الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يُشير إلى أن إدارة ترامب تسعى لدفع السعودية نحو التطبيع مع إسرائيل، مما يتطلب دفع ثمن فلسطيني قد يشمل إضعاف حماس أو تغييرها.
ويشدد المصري على أهمية الوحدة الفلسطينية، مشيرًا إلى أن الانقسام والتشرذم يضعفان الموقف الفلسطيني، ويؤكد أن الاعتراف الدولي بحماس يجب ألا يكون على حساب الحقوق الفلسطينية، داعيًا إلى تشكيل حكومة وفاق وطني ووفد تفاوضي موحد لتعزيز الموقف الفلسطيني في المفاوضات الدولية.
الواقعية السياسية والحضور الحمساوي
تحمل اللقاءات الأخيرة مؤشراً على أن الزمن السياسي الذي حاولت فيه واشنطن وإسرائيل تهميش حماس قد اقترب من نهايته. فالحركة اليوم لم تعد مجرد فصيل مقاوم، بل طرف سياسي مؤثر وصاحب شرعية شعبية وميدانية لا يمكن تجاهلها.
الرهان الحقيقي الآن يكمن في قدرة حماس على إدارة هذا التحول بحكمة، واستثمار الانفتاح الغربي دون الوقوع في فخاخ الشروط المسبقة أو التخلي عن ثوابتها. كما يبقى على المجتمع الدولي أن يُعيد تقييم مواقفه، بعيداً عن التصنيفات الأيديولوجية، وبناء سياسات تنطلق من الواقع لا الأوهام.
ويرى الكتاب الثلاثة أننا أمام لحظة سياسية فارقة، قد تكون مدخلاً لتغيير قواعد التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية بأكملها، أو قد تتحول إلى فرصة ضائعة إذا لم يُحسن الجميع قراءتها واستثمارها.