على مدار أكثر من 46 أسبوعًا تتواصل الوقفة التضامنية التي تنظم أمام كنيسة القديس جورج وسط مدينة كيب تاون، بدأت هذه التظاهرات مع بداية الإبادة الجماعية في قطاع غزة ولم تتوقف أبدًا بل زادت وزاد المشاركين فيها من أغلب شرائح المجتمع ومعتنقي الأديان في المجتمع الجنوب أفريقي.
التضامن هنا يأخذ أشكالًا متعددة في الفعاليات والخطابات والحضور المتنوع بين العديد من الجاليات المسلمة وغير المسلمة، لكن الملفت للنظر أنه لا يكاد يكون أي تواجد عربي في هذه التظاهرات رغم وجود أعداد ليست بالقليلة في كيب تاون من العرب، لقد اكتشفت ذلك من خلال مشاركات عديدة في تظاهرات متعددة في كيب تاون، لم ألحظ ذلك التواجد العربي فيها، آخرها كانت تلك الوقفة الاحتجاجية بالقرب من البرلمان الجنوب إفريقي وهو يقع في منطقة سياحية في كيب تاون كان السياح العرب من جنسيات مختلفة يمرون أمام الوقفة التضامنية مسرعين، كأنهم يهربون من خطيئة ما، كنت أراهم وأتوقع أن يأتون للوقوف مع المحتجين ولو من باب رفع العتب أو من باب السياحة السياسية لكنهم لم يفعلوا وآثروا عدم التواجد في منطقة الوقفة كلها وسلكوا الطريق مسرعين للخروج من منطقة الوقفة التضامنية.
ما لفتني في هذه الوقفة هو وجود العديد من المشاركين اليهود، حيث كان بعضهم يرتدي ملابس مكتوب عليها "اليهود الجنوب أفريقيين من أجل فلسطين حرة" كانوا يحاولوا بكل الوسائل أن يخبروا أنهم يهود، خاصة بعد أن تحدثت إلي بعضهم وعرفوا أنني قادم من غزة قبل ثلاثة أشهر، حيث بادروا إلى التعريف بأنفسهم وبديانتهم ليثبتوا لي أنا القادم من المذبحة بأن إسرائيل دولة تتستر بالدين، وأن اليهود ليس لهم علاقة بما يحدث من جريمة إبادة جماعية بل هو فعل صهيوني مدعوم من الحكومات الغربية التي ترعى النظام العنصري، بعد الوقفة أخذني أحد هؤلاء الرجال اليهود وأدخلني إلى داخل كاتدرائية القديس جورج وأشار إلى عامود خشبي على هيئة صليب كبير مسنود على طاولة وقال لي انظر هناك، لقد شاهدت منظرًا جديدًا وغريبًا عن عيني، كان صليبًا كبيرًا يفرد جناحين خشبيين مسدول على جانبه الأيمن الوشاح الخاص بصلاة المتدينين اليهود، وعلى الجانب الأيسر الوشاح الفلسطيني الذي أصبح رمزًا وطنيًا ثابتًا في كل المحافل، كانت هذه اللفتة تعبيًرا واقعيًا هنا في كيب تاون عن خاصة في كاتدرائية القديس جورج التي لها تاريخ طويل في مناهضة سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكانت ملاذًا للمتظاهرين والحالمين بعالم أكثر سماحة وعدل.
إن الناس جنوب أفريقيا قد أثبتوا مرة بعد مرة أن التضامن في جوهره هو شعور بالمسؤولية الأخلاقية وليس حراكًا نابعًا من مشهد هنا أو خبر هناك، مسؤولية تعتمد بالدرجة الأولى على التضامن الحقيقي والمستمر مع الضحية، ولعل التجربة الجنوب أفريقية تلامس بشكل كبير ما حصل لنا في فلسطين، ربما المشهد الوحيد الذي نغص هذا اليوم هو استمرار مرور العديد من الأسر العربية أمام الوقفة دون إبداء أي تفاعل مع الحالة، بل كان مرورهم بسرعة متغافلين عن عمد أعلام فلسطين التي كانت ترفرف، لقد حاول صبي أن يلتقط صورة للوقفة وعلم فلسطين، فسحبه والده بسرعة ويبدو أنه قام بتوبيخه، لقد نغص هذا الأمر مزاجي لوقت قصير ثم راجعت نفسي بسرعة مستذكر أن قضيتنا الفلسطينية قضية أخلاق وحق وعدل وليست مرتبطة بقومية معينة كما كنا نعتقد لسنوات خلت، خاصة بعد أن ثبت ذلك بالتجربة، إذ لم يتحرك أي شارع في كل الأقطار العربية كما تحركت أصغر عاصمة في أوروبا أو في مدن جنوب أفريقيا، لقد استعدت هذا الوعي الجديد بسرعة، ولم أعد أعبأ بمن يمر من أمام من سياح عرب، وتكاملت تمامًا مع الصادقين الذين أتى بعضهم يحمل طفله الصغير على ظهره ليقف به ساعات في ظل طقس شديد الحرارة، وبعضهم جاء على كراسي متحركة وبعضهم مبتوري أطراف، وكذلك من المشردين في الشوارع الذي كانوا يقبلون العلم الفلسطيني ويقفون بثبات حزين أمام ما يجري من إبادة توقظ بهم ما عانوه تحت ظل حكم الفصل العنصري سيئة السمعة في جنوب أفريقيا.