فوز "ترامب".. بداية ونهاية..!

خطاب ترامب بعد فوزه بالانتخابات الأمريكية
خطاب ترامب بعد فوزه بالانتخابات الأمريكية

تابع العالم لحظة فوز «دونالد ترامب» برئاسة الولايات المتحدة والعالم بالضرورة.. كمن يتابع انهيار سد منذ لحظات تَشَرُّخِه الأولى وحتى تَصَدُّعِه، مستشرفًا الطوفان الماحق الذى قد يتبعه.

تأتى التحليلات تترى فى شأن كيف جرى ولماذا جرى ما جرى..

نملك من الجرأة والصلف فى عالمنا العربى أن نُجَهِّل الأمريكيين وننعتهم بضيق الأفق وجهالتهم بالعالم وانعزاليتهم الدائمة وأنانيتهم.. فهم يختارون «ترامب» المدان فى كل ما يحاكم بصدده.. صفيق اللسان الفج، لمجرد أنهم يريدون اقتصادًا أفضل وحياة أرغد، وليذهب بقية العالم إلى الجحيم.

نتحدث وكأننا فى علياء ننظر من علٍ إلى هؤلاء الذين مارسوا حق الاختلاف وحق الخلاف، ناهينا عن حق التعبير وحق الاختيار، بأنهم أخطأوا فى هكذا اختيار أو أساءوا هكذا تقدير.

إن من فاز فى تلك الأنتخابات هو الشعب الأمريكى.. أيما كان اختياره حيال مستقبله.. فهذا شأنه..

أما نحن.. فقد آن لنا أن نستشرف ماذا عسانا فاعلون حيال مستقبلنا، علنا نغادر حال المتفرج المندهش أبدًا، إلى حال أكثر إنسانية وتفاعلًا مع الحياة بالإرادة والاختيار والوعى والفعل. وليكن فى قضية فلسطين - جرحنا النازف والمستنزف منذ قرابة القرن - نبراسًا يعين على الاستفاقة ومعرفة ما يتوجب فعله، ولندرك ما فاتنا من أقدار البشر على هذه الأرض.


نقول وعن يقين.. إن السردية الصهيونية القديمة - عن حق إسرائيل فى الوجود - تتهاوى وباطراد منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى.. تتآكل يومًا بعد يوم، منذ ثبت باليقين - ومنذ أوسلو- أن حديث السلام هو محض استهلاك تاريخى وسياسى.

استهلاك يراد به التعمية على تكريس واقع الاستعمار الاستيطانى الإحلالى لفلسطين الذى بدأ قبيل وعد بلفور ١٩١٧ والذى لا حياد عنه، لأنه مشروع الغرب للتخلص من شراذم حثالة اليهود الأوروبيين الذين باتوا صداع القارة العجوز منذ القرن التاسع عشر.


كان التخلص من تلك الشراذم اليهودية فى أوروبا ضرورة حالة، تعاطت معها أوروبا إما بالتطهير العرقى المباشر كما حدث فى ألمانيا النازية، أو بلفظهم إلى جغرافيا جديدة - حبذا لو جغرافيا خصم حضارى وتاريخى وهم العرب المسلمون - وذلك الحل الذى اقتضى سردية الضلال التاريخى عن وطن يهودى فى فلسطين.

سدنة المشروع الصهيونى فى داخل فلسطين باتوا يحاولون ترميم تلك السردية الساقطة، بالحديث عن يهودية الدولة تارة.. وبجنون التوسع فى الاستيطان تارة أخرى.. ثم بالسعار فى القتل والدمار كما يحدث منذ السابع من أكتوبر بحجة هجوم حماس.

وأخيرًا بات التوجه المعتمد - صهيونيًا وغربيًا - لترميم تلك الضلالة التاريخية أو ما بقى منها، هو الانطلاق من الجغرافيا والديموجرافيا لا من التاريخ عند الحديث عن فلسطين وأهلها..

فإن كانت الديموجرافيا تقول إن الشعب الفلسطينى هو بعض شراذم فى شتات الداخل وشتات الخارج.. والجغرافيا تقول إن ما تبقى هو فتات من كانتونات محاصرة أو بالأحرى سجون مفتوحة.. فعن أى فلسطين يتحدث الآخرون كما تريد الرواية الإسرئيلية؟


وإمعانًا فى الغى.. صرح «ترامب» قبيل فوزه عن أساه لصغر حجم إسرائيل وضرورة توسيعها.. وذاك ما يؤذن بفصل جديد، وأراه أخير فى محاولة ترميم ما تبقى من الرواية الصهيونية المتهافتة.. ولن يخلو الأمر كذلك من التلميح الباهت والمستمر لـ«حل الدولتين»، والتصريح الدائم عن جنان التنمية وأنهار اللبن والعسل التى تنتظر إقليمنا العربى التعس حال قبولنا بما تنتهى إليه قرائح اليمين الصهيونى، بمثل ما كان يهذى به «بيبى نتنياهو» من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة عن شرق أوسط به «محور نعمة»، إسرائيل على رأسه تدير موارده وتستعبد - حرفيًا - شعوبه الفاشلة المتخلفة، وفقًا للدلالات الإسرائيلية والغربية وبعض الروايات العربية المتماهية فى الضلالة الصهيونية.

فاز «ترامب» أو كانت «هاريس» هى التى فازت، يبقى جوهر النصر فى الصراع فى إقليمنا العربى هو فى التبصر بالحقائق التاريخية، وليس فى القبول بأية تخريجات سياسية أو اقتصادية تعيد تعريف أو تحريف التاريخ وأصل الحقوق.

جوهر النصر يكون فى تحديد من نحن وماذا نريد لأنفسنا..

لا فى التماهى مع ما يراد لنا، وليس فى الجلوس ذاهلين متفرجين فى انتظار ما يرشح عن الغرب وإسرائيل فى شأن مستقبلنا.. فإن قالوا «حل الدولتين» هللنا وباركنا.. وإن قالوا أقلعوا عن اقتفاء الحق والعدل، واركنوا إلى الاقتصاد والتبعية، قبلنا وبررنا وانصعنا..!

ستكون هناك قراءتان لطوفان «ترامب» المتوقع والمحتمل فى شأن قضايانا وعالمنا العربى ومستقبلنا..

«قراءة ضالة» مائلة تدعى الواقعية والبراجماتية - تُفرَض علينا فرضًا باسم آفاق التنمية والسلام، وهى أقرب للتعامل مع الإقليم وشعوبه على كونه إقليمًا من السائمة ضاقت بها رعاؤها..

قراءة استعمارية كنهها القبول والرضوخ والتبرير لما قد تلقيه إدارة «ترامب» من فتات «صفقة قرن» جديدة أو «شرق أوسط جديد» أو «اتفاقات إبراهيمية» لأبناء إبراهيم أو حتى «اتفاقات آدمية» لأبناء آدم..

قراءة مؤداها بعض من تخريجات سياسية عوراء، كحكم ذاتى محدود للفلسطينيين فى بعض أحيائهم - ولن أقول مدنهم - فى شأن نظافة الشوارع والمرافق وبعض من تعليم وصحة، ذلك كله تحت هيمنة إسرائيلية مطلقة، تتسلط على بقايا الفلسطينيين التى تحيا فى «جيتو» ينشأ لهم هنا وهناك فى دول عربية آبت إلى الحظيرة الإسرائيلية وقبلت بتلك «الواقعية».

و«قراءة عادلة» معتدلة واجبة تُنشئُ أطروحة عربية جديدة فيها كل الحقيقة التاريخية وكل أمل فى مستقبل، حتى لليهود إن أرادوا أن يحيوا بشرًا كبقية خلق الله فى المنطقة لا سادة على عبيد.

أما جوهر القراءة الواجبة يبدأ ولا ينتهى بتسمية الأمور بأسمائها وبتحميل كل طرف مسؤولية ومغبة فعله واختياره وانحيازه.

فلا معنى لرطانة تجرى عن حدود ٤ يونيو ١٩٦٧ باسم ضرورة حديث الحدود.. وليكن أصل الحديث إذًا عن حدود ٢٨ نوفمبر ١٩٤٧ عشية قرار التقسيم الآثم.

وإن كان المشروع الصهيونى برمته هو نتاج التصور الأوروبى الكولونيالى لحل المسألة اليهودية فى أوروبا، فعلى الطرف الأوروبى أن يقدح قريحته فى حلول أخرى غير الاستيلاء الاستيطانى على أرض شعب اسمه شعب فلسطين.

جوهر «القراءة المعتدلة» هو فى إسقاط السرديات الملفقة، وعدم التماهى فيها واجترارها.. هو فى إحياء الأطروحة العربية للإقليم حتى وإن طمرها خلل ميزان القوى لعقود.

و ليكن السؤال.. إن طُرِحَ «حل الدولتين»، أى دولتين ولماذا دولتين..؟! أى منطق يحكم ويقرر.. العدل أم الأمر الواقع أم إرادة إسرائيل والغرب المهيمن زورًا..؟!

فإن جاءت الإجابة هى الشرعية الدولية.. فأين الكيان المارق المؤسس باسم إسرائيل من تلك الشرعية ليس منذ سبعين سنة ولكن اليوم..؟!

هو كيان أحل نفسه من أن يكون طرفًا مسودًا بالقانون الدولى، أو بالأحرى هو طرف مارق منشق عن الشرعية الدولية مسقطًا لها وبالتبعية فليس له أن يمارسها انتقائيًا هو من يدعمه.

وإن كان منطق الرضوخ لواقع وجود إسرائيل.. هو التعويض والإعذار عن المحنة التاريخية لليهود فى أوروبا.. فهذا ليس شأننا عربًا وفلسطينيين.. هذا شأن من كانوا سببًا فى المحنة.. «فمن أفسد شيئًا توجب عليه إصلاحه!»..

أى وببساطة.. إن كان حديثهم عن «دولتين» فهذا شأنهم.. أما شأننا ومن الآن هو «دولة فلسطين» الواحدة على كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر.. وليكن حول ذلك كل الطنين وكل النقاش وكل الصراع.. وكفانا وهمًا وتدليسًا وسقوطًا فى شراك دخلناها طواعية منذ عقود.

الحديث صادم للبعض ممن تلمسوا المصلحة والبقاء فى أن يهجعوا لرواية التنمية وسراب جنة الرخاء.. وكاشف لمن يتسولون فى رئاسة ”ترامب“ المدد والسلوى.. ولكن يقينى أنه حديث متجاوز من تجاوزهم الزمن ممن مازالوا قابعين فى ثنائيات الآحاد والأصفار، فإما صدام واستنزاف وفدائية أقرب للانتحار، وإما رضوخ وتسليم ومذلة وعجز باسم العقل، سيكون هو حديث رجال الدولة والمؤسسين للمستقبل فى كل الأطراف متى وجدوا وهم موجودون.

هو حديث «التفاوض بالمقاومة» و«المقاومة بالتفاوض» على أرضية منطقية وتاريخية وقانونية فيها السياسة والمواجهة والمقاربة..!

فها هو «إيلان بابى» المؤرخ اليهودى الإسرائيلى ذو الضمير الحى.. يرصد فى تتمة أعماله التى تجاوزت أربعة وعشرين كتابًا عن أصل القضية الفلسطينية وحقيقة الصراع وجذور الادعاءات الصهيونية المتهافتة عن الحقوق فى أرض فلسطين.. يرصد تآكل المشروع الصهيونى برمته ويرصد عين التحلل للاستعمار الاستيطانى الصهيونى فى جنون توسعه، ويُستقرَأ من حتميات التاريخ أن الأمل الوحيد للنجاة لليهود المستعمرين فى عموم فلسطين - ومنذ وعد بلفور وما قبله - هو فى القبول أو الرضوخ بالعيش فى دولة فلسطينية واحدة كريمة متفضلة تسمح لمن أراد منهم واستطاع البقاء كمواطن لدولة فلسطينية ذات حكم رشيد.

ولمن يراهن على الدعم الأمريكى والأوروبى الأعمى لليمين الصهيونى فيما يقترفه من مجازر وإبادة عرقية فى فلسطين على دوام.. ليعلم وذلك من كلام «بابى» و«آفى شلايم» وما يراه عدول كثر.. أن المشروع الصهيونى فى فلسطين ورغم الدعم الأعمى صار عبئًا على الأوروبيين وسيزداد كراهة مع تغير التركيبة الديموجرافية لأوروبا، ومع تبصر كثير من قطاعات المجتمعات الأوروبية بحقيقة التاريخ لما يجرى فى فلسطين.

ولمن لا يعلم ورغم الطنطنة الببغائية التى سمعناها من «بايدن» و«هاريس» و«ترامب» عن التعهد السرمدى بدعم أمن إسرائيل وبقائها.. بأن الإدارة الأمريكية لم تعترف بـ«إسرائيل» كدولة فى العام ١٩٤٨ إلا فى سياق الحرب الباردة ولاعتراف الاتحاد السوفيتى بها قبلها.. بل كان الموقف الرسمى الأمريكى لإدارة ترومان هو إقامة دولة ديمقراطية واحدة فى فلسطين وظلت الإدارات المتتالية وحتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى لا ترى وجاهة حقيقية وضرورة حقيقية لقيام دولة إسرائيل، وبقى الأمر هكذا وحتى اغتيال كينيدى، ولتتغير الأمور تحت إمرة الرئيس «ليندون جونسون» ومن بعده.. وهو أمر قابل للتغير تاريخيًا، وقد سمعت هذا بنفسى من بعض عقلاء فى أروقة صناعة الرأى والقرار فى أمريكا وإن ما زالوا قلة.

يرى البعض ويريد فى فوز «ترامب» «بداية» للهيمنة الصهيونية على بلادنا من نيلها لفراتها..

ولكنا نراها «نهاية» للمشروع الصهيونى البغيض متى أردنا هكذا.. ومتى أردنا قبلها أن نحيا قدر البشر المكرم صاحب القدر والكرامة لا قدر السائمة أيما كانت التخريجات والوعود.

(فَكِّرُوا تَصِّحُوا..)

المصدر : المصري اليوم
atyaf logo