تتواتر مقدمات وشواهد أننا بقرب عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة على الجبهة اللبنانية قد تنزلق بالتداعيات إلى حرب إقليمية مدمرة.
لم يعد ذلك السيناريو مستبعدًا أو خطرًا مفترضًا تحاول أطراف دولية وإقليمية عديدة تحاشيه. إنه خطر ماثل رغم تعقيدات حساباته وفواتيره الباهظة.
كان الهجوم السيبرانى، الذى استهدف يومى الثلاثاء والأربعاء الماضيين أجهزة اتصال «حزب الله» وأسقط عشرات القتلى وآلاف المصابين إشارة بالغة الخطورة على ما قد يحدث تاليًا.
رغم الترويع فى الشوارع والبيوت اكتشف اللبنانيون وحدة مصيرهم، تبرعوا بالدم وحافظوا رغم الفوضى على تماسكهم الداخلى أمام الخطر الوجودى الذى يتهددهم جميعًا دون تمييز.
بدا الهجوم السيبرانى بأجوائه وسياقه، كما لو كان تمهيدًا لبدء العمليات العسكرية فى أجواء فوضى وارتباك، لكن ذلك لم يحدث بوقته ولحظته.
كانت تلك مفارقة لافتة فى المشهد المأزوم.
أخذت الخروق الأمنية الظاهرة مداها يوم الجمعة التالى باستهداف اجتماع سرى وصف بأنه نادر لعشرين شخصية قيادية فى قوة «الرضوان»، نخبة النخبة فى «حزب الله».
كانت تلك ضربة استخباراتية قاسية أخرى نالت من إبراهيم عقيل مسئول العمليات وثلاثة عشر قائدًا آخر.
طرحت التساؤلات القلقة نفسها بإلحاح حول الخرقات الأمنية، حجمها وتأثيرها فى أية مواجهات عسكرية وشيكة، لكن لم يطرح هذا السؤال:
لماذا لم تقنص القوات الإسرائيلية الفرصة السانحة بالبدء فى عملياتها العسكرية البرية؟!
الإجابة تستدعى النظر فى الحقائق الماثلة
كان توسيع نطاق الحرب ونقل مركز الثقل العسكرى والاستخباراتى من غزة إلى الشمال، حيث الحدود الملتهبة مع لبنان قرارًا سياسيًا أصدرته حكومة بنيامين نتنياهو، لكنه يتطلب التحسب لمواضع الأقدام على الأرض قبل أى عملية واسعة أهمها ضمان الغطاء الأمريكى بالتواطؤ، أو التوريط.
استهدفت العمليات النوعية والاستخباراتية فى المقام الأول، أن يجد «حزب الله» نفسه أمام معضلة يصعب تجاوزها، إذا صمت فإنها إهانة لا تحتمل تأثيرها باهظ على صورته ووزنه وأدواره.. وإذا رد بما يمتلكه من قدرات صاروخية باليستية فإنها الحرب الواسعة والتورط الأمريكى الكامل مع القوات الإسرائيلية بذريعة حقها فى الدفاع عن نفسها.
هذا ما تسعى إليه بوضوح كامل حكومة «نتنياهو».
لا تقدر إسرائيل على خوض مواجهتين عسكريتين بوقت واحد.
هذه حقيقة بأى حساب.
يستلفت الانتباه هنا نقل قوات رئيسية من غزة إلى الشمال، فى نفس اللحظة التى أعلن فيها يحيى السنوار زعيم «حماس» تأهبه لحرب استنزاف طويلة.
حسب التقديرات الإسرائيلية فإن أى انسحاب من أى منطقة فى غزة يعنى على الفور تقدم «حماس» لملء الفراغ.
هكذا يجد الموقف الإسرائيلى نفسه مأزومًا بفداحة.
لا بوسعه حسم حرب غزة، رغم جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتجويع المنهجى ضد سكانها، ولا هو متاح تأمين شريط حدودى داخل الجنوب اللبنانى يؤمن عودة المستوطنين إلى الشمال.
كيف يعودون إذن؟!
فكرة الشريط الحدودى نفسها شبه مستحيلة موضوعيًا.
إنها تعنى - أولًا - مواجهات برية شرسة لا تقدر على تحمل تكاليفها وأعبائها قواتها المنهكة، التى لا ترى أمامها أفقًا لحل.
كما تعنى - ثانيا - إنتاج الفشل نفسه الذى عانت منه عندما أنشأت برعايتها تدريبًا وتمويلًا عام (1976) فى سنوات الحرب الأهلية ما أطلق عليه «جيش لبنان حر» بقيادة «سعد حداد» و«أنطوان لحد» من بعده.
لا حقق الشريط الحدودى، الذى تمركزت فيه تلك الميليشيات أمنًا مستتبًا لإسرائيل.. ولا الميليشيات حافظت على وجودها.
فى حرب (2006) تلقت إسرائيل هزيمة أكبر وأفدح وتحرر الجنوب مرة ثانية.
يستلفت الانتباه مرة أخرى أن فكرة الشريط العازل جرى طرحها من جانب «نتنياهو» لليوم التالى فى غزة.
لم تكن الإدارة الأمريكية مستعدة أن توافق على فكرة محكوم عليها بالفشل المسبق.
المفارقة الكبرى أنه بعد نحو عام من الحرب على غزة لم يحقق «نتنياهو» أيًا من أهدافه الأساسية، فإذا به يضيف هدفًا جديدًا يصعب تحقيقه هو الآخر.
حاول القفز فوق حقائق غزة، وعدم رغبته فى التوصل إلى صفقة تنهيها، وتنهى بالوقت نفسه الاشتباكات الحدودية فى الشمال والمواجهات التى لا تتوقف فى البحر الأحمر.
إسرائيل ليست مهيأة لحرب جديدة، فهى منهكة عسكريًا واقتصاديًا ومهزومة استراتيجيًا وأخلاقيًا، لكنها تغامر من أجل مصالح سياسية لـ«نتنياهو» وحليفيه المتطرفين «ايتمار بن غفير» و«يتسلئيل سيموترتش».
فى الهروب إلى الشمال أعطيت التعليمات للمستوى العسكرى بالتأهب لفتح جبهة جديدة، قبل أن يعلن رئيس الأركان الإسرائيلى «هرتسى هليفى» أنه قد صدق فعلًا على خطة العمليات.
مع ذلك كله فالحرب ليست خيارًا سهلًا أو متاحًا دون تكاليف وعواقب.
رغم النجاح الظاهر للضربات الاستخباراتية، فإن حدودها لا تمس جوهر الاستراتيجيات وقدرة «حزب الله» على استيعابها وتصحيح أوجه الخلل، التى سمحت بالخروق الأمنية الفادحة.
حسب إشارات متواترة فإن الحزب تنبه إلى خلل ما فى أجهزة اتصالاته، وكاد يصل إلى الحقيقة ويعطل مفعول عمل استخباراتى طويل ومعقد استغرق شهورًا.
صدر قرار تفجير أجهزة «البيجر» دون أن يكون الجيش مستعدًا لبدء العمليات قبل أن يفجر باليوم التالى أجهزة الـ«ووكى توكى أيكوم»، ويسقط ضحايا آخرون.
يحاول «نتنياهو» التخفف من عبء إعادة الرهائن بصفقة لصالح فكرة أخرى يصعب تحقيقها بذريعة إعادة أكثر من (700) ألف مستوطن بأمان إلى منازلهم، التى أخليت بأثر الاشتباكات الحدودية المتصلة بعد السابع من أكتوبر (2023).
بالحسابات الأمريكية المعلنة فإنها تمانع فى تلك الحرب خشية تداعياتها السلبية للغاية على استراتيجياتها ومصالحها بالشرق الأوسط، لكنها عالقة فى انتخاباتها الرئاسية لا تعرف أين تقف؟ ولا ماذا تفعل؟
تتبنى الإدارة الأمريكية بوقت واحد موقفين متضادين.
أحدهما، يعلن الوقوف مع إسرائيل وحقها المطلق فى الدفاع عن أمنها، وهو يمهد لتورط لا تريده فى حرب تضر بمصالحها.
وثانيهما، التحذير من مغبة الدخول فى حرب مفتوحة جديدة على الجبهة اللبنانية قد تفضى إلى حرب إقليمية واسعة، لكنها لا تفعل شيئًا له تأثيره على حركة الحوادث.
السيناريوهات كلها مفتوحة على الأخطار المحدقة.