تحرير فلسطين بالأمنيات القدرية

مواطن ينظر الي ركام منزله المدمر
مواطن ينظر الي ركام منزله المدمر

تدور أغلب التحليلات السياسية حول ضعف إسرائيل وتعرضها لضربات عسكرية متتالية تشيئ بقرب نهاية هذه الدولة، يبنى أصحاب هذا الطرح فكرتهم على مبدأ حتمية زوال إسرائيل من وجهة نظر دينية، وطبقًا للجغرافيا السياسية التي من وجهة نظرهم لا تقبل إسرائيل فيها من ناحية المنطق الطبيعي، فهم يحللون إذًا طبقًا لمبدأ قد يتحقق بعد مئة عام، وهم بهذا كمن يمنى نفسه بعدل يوم القيامة، وهو حق، ولكن هل ننتظر يوم القيامة لإقامة العدل بين الناس، وبالقياس: هل نعتمد على فكرة حتمية زوال إسرائيل بأن نصف كل ما يحصل بأنها بشريات على تفككها، وماذا عن دكتاتوريتنا وتخلفنا؟!

تشكلت "دولة إسرائيل" مع ارهاصات إعادة تشكيل المنطقة بعد انحصار الاحتلال البريطاني لمنطقة الشرق الأوسط، وأعلن قيامها بعد حرب عام 1948 وهي لم تكن حربًا بالمعنى العسكري، بل مخاض لميلاد شرعي لهذه الدولة التي كانت تسعى لتثبيت تاريخ تسميه يوم الاستقلال 15 مايو، وهو يوم النكبة للشعب الفلسطيني، منذ ذلك الحين استقلت العديد من الدول العربية وصعدت إسرائيل وتوسعت في مساحتها الجغرافية بفعل الاستيطان الذي هو أساس فكرة الدولة لديهم، ثم بعد ذلك بتعزيز الاستيطان بتقديم الدبابة والجرافة العسكرية التي احتلت عام 1967 أضعاف مساحتها التي أُعلنت عام 1948، استمرت إسرائيل بالتوسع وفرض السيطرة من خلال الآلة العسكرية، وبعد انكفاء فكرة التوسع الجغرافي، سيطرت إسرائيل على المنطقة بفعل تغذية الصراعات المحلية والإقليمية وطرح نفسها كعنصر أمان للعديد من الأنظمة في محيطها وهو ما أوصلها اليوم إلي شن حرب إبادة على قطاع غزة دون وجود أي رادع عربي، بل ربما هناك موافقة على ما يجري بصورة التقاء المصالح، على حساب دماء الفلسطينيين وأرضهم.

يكثر الحديث بأن نتنياهو يطيل أمد الحرب لأنه يخشى على نفسه من السجن والملاحقة، هذه النظرة القاصرة لتحليل الأمر تضعنا في منطقة الاستغباء المتعمد، فنتنياهو لا ينظر إلى نفسه بصفته رئيس وزراء إسرائيل وبالتالي لا يتعامل بالمنطق المصلحي الضيق كما يظن المحللين الذين يسقطون ما في دولهم على خصمهم باستخدام حيل الدفاع النفسي، بل هو يرى نفسه المؤسس الثاني لدولة إسرائيل بعد ثيودور هرتزل، لهذا يتصرف بمنطق العارف والقاضي ووزير الحرب، فلا شيء يمكن له أن يقف أمامه من أجل تدمير كل المناطق التي قد يظهر منها عمل مسلح يمكن أن يساهم في تثبيت فكرة تدمير دولة إسرائيل وانهيارها، وهذا المبدأ كمفهوم عام هو ثابت في العقلية العربية والإسلامية، لهذا يجب العمل على قهره واستبعاده تمامًا من العقلية العربية والإسلامية، وإثبات عدم صحته للجمهور الصهيوني المتشكك.

لقد أتخم بعض المحللين بالأمنيات القدرية المنصات الإلكترونية بتصدع الجبهة الداخلية في إسرائيل وتفككها من الداخل بفعل المعارضة والتظاهرات الحاشدة في تل أبيب والتي تنادي بإبرام صفقة تبادل للأسرى مع الفصائل في غزة، ويبنون موقفهم على انهيار الحكومة الإسرائيلية بفعل المعارضة (بشروا بانهيارها بعد الأسبوع الاول للحرب وها نحن في الشهر الحادي عشر) والانتقادات التي تواجه المؤسسة العسكرية وينفخون في كل تصريح صادر عن يائير لابيد زعيم المعارضة وكأنه انتصار لرؤيتهم في حتمية تفكك إسرائيل وانهيارها، وقد تسقط الحكومة غدًا، ولكن هل هذا معيار تفكك، أم معيار قوة، وهل مشكلتنا نحن مع حكومة نتنياهو ليكون سقوطها انتصار لنا؟!

هذا التحليل المبني على القناعات الشخصية في تحقيق الأمنيات لا يمكن أن يستقيم مع الوضع السياسي والعسكري لدولة الاحتلال، فالمعارضة الداخلية الحالية هي معارضة صحية تتكامل في الرؤية مع نتنياهو لتحقيق المصلحة العامة للدولة والفكرة الصهيونية، وليس كما يريد المحللين بأمنيات القدرية اظهاره وكأنه بداية تفكك لهذا الكيان واحتساب ذلك فعل انتصار لرؤيته، والناظر إلى تصريحات المعارضة والتظاهرات القائمة في إسرائيل يعرف أنها حركات احتجاج تنادي بإبرام صفقة لتحرير الرهائن ومن ثم العودة إلى الحرب والقتال، وتتفق في كليتها على القضاء على ما أسموه التهديد، أي أنها رؤية متطرفة أكثر من رؤية نتنياهو في استمرار الحرب وتحرير الرهائن عبر الضغط العسكري، هذه المعارضة وحركة الاحتجاج التي يراهن عليها المحللين السياسيين كما راهنوا على مظاهرات الجامعات في أمريكا وغيرها، ثم على تحرك ما أسموه محور المقاومة بالشكل الحقيقي لخوض الحرب، والمراهنة أيضَا على ضغط الشارع العربي، كل هذه المراهنات كانت رهانات خاسرة لأنها رهانات اعتمدت على أدوات وتحليلات مبنية على وقائع من الماضي، رهانات تفتقد إلى قراءة حدث ما بعد السابع من أكتوبر بالشكل المعرفي والاستراتيجي التي يتعلق بتطور رد الفعل لدى الفكر الصهيوني، وتحالف بعض الدول العربية مع إسرائيل بشكل علني لتحقيق المصالح الاقتصادية فيما بينهم، أي أن النظرة الكلاسيكية للدول العربية التي كانت تطالب بالحرب، وانتقلت بعدها إلى سحب السفراء، هي اليوم تدعم الاحتلال بالمواد التموينية، وتشكل له درعًا جويًا حاميًا.

الحرب التي تُشن على غزة ليست إسرائيلية، بل أمريكية بالدرجة الأولى، لم تتوقعها حماس، ولو كانت تعلم أن رد الفعل سيكون بهذه الصورة لفكرت أكثر من مرة في خوض ما حصل في السابع من أكتوبر، فالسقف الذي بدأت فيه الحركة الحرب، لا يمكن أن يُقارن بالسقف الذي تطالب به الحركة الآن عبر متحدثيها الرسميين الذين يتمسكون بما أسموه ورقة بايدن، هنا وقعت حماس في فخ الماضي أيضًا، فورقة بايدن أصبحت من الماضي ولم يطرحها بايدن من الأساس لكي تُنفذ بل لشراء المزيد من الوقت، وسوف يطرح غيرها قريبًا، فالمطلوب هو إنهاء قطاع غزة كقاعدة بشرية للوجود الفلسطيني، وهذه فرصة مواتية، فما الذي يمنع أمريكا من تنفيذ ذلك تحقيقًا لرؤية الصهيونية تفريغ الأرض من الوجود البشري الفلسطيني لتصحيح الخطأ التاريخي الذي قام به أسلاف نتنياهو منذ تأسيس الكيان من وجهة نظره بأنهم أبقوا على بعض الفلسطينيين داخل الخارطة الكبيرة.

على مدى وجود إسرائيل تعمل بشكل حثيث على تسخير كل حدث مهما كان لتحقيق الفكرة الصهيونية وتعميق وتحديث وجودها، هذا هو التفكير الاستراتيجي المبني على المعرفة المسنودة بالقوة العسكرية، والتي تُقابل بالعنتريات الشعاراتية لتحقيق الأمنيات القدرية.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo