يعيش الشعب الفلسطيني في هذه الأيام ظروفًا لم يعشها طوال مسيرته النضالية منذ نكبة عام 1948 من خلال حالة الانقسام الحاد في الوضع السياسي والتنظيمي والجغرافي داخل فلسطين المحتلة، فقد بدت غزة وكأنها في وادٍ لوحدها تناطح خياراتها التي ارتأت حركة حماس أن تكون في خيار الحرب التي أدت إلى تدمير قطاع غزة، وهذا التدمير معناه خطير وعميق على كيانية الوجود الفلسطيني فغزة هي التي حفظت اسم فلسطين من الاندثار في سبتمبر من العام 1948 على قطاع غزة، عندما أقول غزة أعني تمامًا الوجود البشري فوقها، وما يستدعيه ذلك من سبل للحياة من المساكن والمشافي والطرقات والمدارس، كل هذه القرطاسية لم تعد موجودة في غزة، وهذا معناه أن رمزية القضية ووجود اسم فلسطين في محل اختبار وجودي عظيم.
أمس الثلاثاء 27-8-2024 أعلن الاحتلال عن شن عملية عسكرية هي الأكبر منذ عملية السور الواقي عام 2002 بهدف القضاء على المسلحين في مخيمات جنين وطولكرم ونابس، وهنا رمزية أخرى، عمل الاحتلال منذ السابع من أكتوبر على تنفيذها وهي تدمير المخيمات الفلسطينية وتجريفها وهذا كان مشروع شارون في ثمانينيات القرن الماضي وقد بدأ فيه ولكن جاءت انتفاضة الحجارة ومفاوضات السلام وأوقفت هذه العملية التي انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو، أما الآن فيرى نتنياهو أنه قادر على ما لم يستطع فعله شارون ومن قبله الجنرالات المؤسسين من هدم الكيان الفلسطيني الرمز وهو المخيم الذي يُذِّكر بالنكبة وضرورة حل مسألة اللاجئين، ومن ثم الانتقال غير المعلن لتدمير القرى وتهجير سكانها، فهي عكس المدن تعتبر مناطق موزعة بشكل عشوائي ويسكنها بضع آلاف من الناس، وهذا ما يدلل عليه شمول العملية الإسرائيلية على قرى رام الله ونابلس والخليل، وتكثيف عملية القتل والهدم من أجل التهجير وتفريغ بعض المناطق لإعادة تشكيل الخارطة الجغرافية للواقع السكاني الحالي للضفة الغربية وتوسيع عملية الاستيطان بشكل أكثر حدة وانتشار، لهذا تشارك الجرافات في هذه العملية بشكل أكبر من الدبابات والطائرات.
لقد أعلن جيش الاحتلال أنه أنهى عملياته الكبيرة في قطاع غزة، وسحب منه عديد كتائبه وألويته، وانتقل بها إلى الضفة الغربية، ولازال سياسيينا يثبتون الخطأ في العقول بأن الاحتلال في حالة تراجع وتعب جراء عملياته في غزة وإنه غير قادر على شن حروب أخرى، أو عمليات ذات تأثير قوي، وهو كل يوم يثبت عكس هذه النظرية التي يجب أن تتغير، وأن نتعامل مع الاحتلال الاسرائيلي من جانب معرفي حقيقي وليس من جانب خرافات المُحليين والمتواكلين المُتغابين.
نجح نتنياهو في تحييد الشعب الفلسطيني (الكتلة البشرية) من خلال خلق الشروخ الداخلية والذاتية المصلحة فيما بينها من خلال تعزيز الانقسام في الحالة السياسية والجغرافية والاقتصادية حتى وصلت إلى مستويات شعبية داخل الأسرة الواحدة، هذا التفتيت كان هو الدرع الإسرائيلي الأبرز الذي جعل غزة تخضع لحرب إبادة بينما مدن شقيقة له تعلن التضامن والتظاهر بأعداد غير ذات قيمة، نتنياهو بشكل شخصي لا يخاف المقذوفات البدائية التي تلبس ثوب أسلحة الجيش وهي ليست كذلك لأنه يمتلك الطائرات ويعرف كيف يتعامل معها إن هي أينعت، وقد قام بقطفها بالفعل، لكنه يخاف الفعل المسلح العادي الذي يخلق حالة من عدم الاستقرار، لكن خوفه الأكبر يتمثل بوجود حالة رفض شعبية لفكرة وجود الاحتلال بحد ذاته، يخشى المظاهرات الحقيقة والاحتجاجات التي تخلى عنها الشعب الفلسطيني جراء الانتكاسات التي سببها الانقسام وخطط الاحتلال وركونه إلى المنفعة الشخصية والمشي بجانب الحائط.
نتنياهو يعلنها اليوم حرب وجود شاملة على الفلسطيني في كامل وجوده داخل فلسطين التاريخية، دمر غزة، وانتقل بعسكره ودباباته إلى مخيمات ومدن الضفة الغربية، فهذه فرصة عالمية مواتية ربما لا تتكرر في القريب العاجل، اليوم مخيمات جنين ونابلس وطولكرم وغدًا ينتقل إلى ما بعدهم بدون أي رد فعل فلسطيني رسمي أو شعبي يصل إلى درجة التحدي الحقيقي، سوف ينجح الاحتلال دومًا لأنه يمتلك الخطة والرؤية ونفشل نحن لأننا لا نمتلك الرؤية الفلسطينية والوحدة الوطنية، التي اتضح أنها صمام الأمان الحقيقي لنهضة الشعب وتثويره لنيل حقوقه السياسية، الوحدة الوطنية التي تعامل معها الجميع باستهانة واضحة وظن في حركته أو حزبه أنه هو الممثل لفلسطين والقادر على خوض النضال بعيدًا عن الأطراف الأخرى، والنتيجة كما نرى: استباحة الكل.
هذا نداء قبل النهاية الأخيرة، هذه حرب وجود على الإنسان الفلسطيني، ولا يحتاج الأمر إلى شرح كثير أو دلائل، نتنياهو قادم بالجرافات العسكرية، ويجب على القيادة الفلسطينية اليوم قبل الأمس أن تفعل شيئًا لمواجه هذا الخطر الوجودي، وتفعيل قراراتها التي اتخذتها في مجلسها المركزي عدة مرات، الخراب أتى، والتحذير منه لم يعد منطقي، نحن في الخراب الآن ولن يواجه الخراب إلا قيادة فلسطينية تعي تمامًا أن لا مكتسبات حقيقة في ظل الجرافة الإسرائيلية القادمة، ولتعلن القيادة وعلى رأسها الرئيس محمود عباس عن نيتها في ضوء الهجمة الإسرائيلية في بدء أول الخطوات للتحلل من السلطة الفلسطينية اتساقًا مع قرارات اللجنة المركزية والبدء كخطوة أولى في إجراءات تسليم سلاح الأجهزة الأمنية إلى الأمم المتحدة، والاعلان عن طلب الحماية الدولية العاجلة وتسيير مظاهرات عارمة تملأ الشوارع وتتجه إلى الأراضي المحتلة تطالب بتطبيق قرارات الشرعية الدولية وتعلن حالة التعبئة العامة في مخيمات اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا، فما دمنا لا نمتلك السلاح لنحرر الأرض، فلنحرر أنفسانا منه، وهذا وقت الخيار الأخير الذي طالما ردده وهدد به الراحل صائب عريقات والرئيس عباس، لنفعل هذا قبل أن تفعله إسرائيل وتقوم بجمع السلاح وتفكيك السلطة كخطوة أخيرة وتهجيرنا عبر بوابات حديدة.