قد تبدو جولة وزير الخارجية الامريكي انطوني بلينكن الخامسة الى المنطقة منذ بداية العدوان على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، والتي افتتحها بزيارة المملكة العربية السعودية، ومن ثم مصر، وقطر، وإسرائيل، والضفة الغربية، وكأنها ترسم نهايات هذه الحرب بالتوقيت الأمريكي، بالنظر الى حجم الملفات والمعالجات التي يحملها بلينكن، والتي تبدأ بهدنة مطولة بين حماس وكيان الاحتلال، وبتصورات اليوم التالي للحرب، وتنتهي بمشروع اكبر يمتد الى التسوية السياسية، وصولا الى فتح مسار التطبيع في المنطقة مجددا.
تحركات تتزامن مع تحولات سياسية في المواقف تجاه العدوان على قطاع غزة، ترجمها الموقف البريطاني لفرض الحل عندما اعلن وزير الخارجية ديفيد كاميرون ان لندن تدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية وان لا رجعة عن حل الدولتين، وما سبق ذلك من اجتماع رباعي في باريس، مما يعني ان المواقف الدولية نضجت من منظور واشنطن التي ضاقت وحلفائها ذرعا بسلوك اسرائيل العسكري والسياسي .
زيارة بلينكن.. تفويض بإدارة الحل
الانزعاج الإسرائيلي الواضح من المواقف والتحركات الامريكية التي أجهزت على سردية تل ابيب السياسية والعسكرية حول الحرب، والحل جاء بعدما دفعت واشنطن بمواقفها النهائية على شكل جراحة رغم الملاحظات على طريقة التشخيص والتخدير والتقطيب كما وصفها الكاتب غسان شربل أظهرت انه لا يمكن مواصلة الحرب دون الولايات المتحدة ولا احد يمكنه وقفها غير الطباخ الأمريكي.
الدبلوماسية الامريكية المكثفة التي بدأها وزير الخارجية انطوني بلينكن هي امتداد للحرب ولكن بوسائل أخرى فالجولة الشرق اوسطية بحسب بيان الخارجية الامريكية قبل الزيارة بالتأكيد ان الوزير بلينكن يسعى الى العمل لمنع انتشار الصراع كما سيواصل المناقشات مع الشركاء حول كيفية إنشاء منطقة أكثر سلمية وتكاملا تتضمن أمنا دائما للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، الى جانب مساعيه المكثفة للتوصل إلى هدنة مطولة بين حركة حماس والاحتلال .
وينصّ مقترح الهدنة الجديد على وقف القتال لمدة 6 أسابيع مبدئيا، بينما تفرج حركة (حماس) عن الرهائن الذين لديها مقابل إفراج إسرائيل عن أسرى فلسطينيين وإدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر. إضافة إلى السماح بدخول المساعدات الإنسانية، تشترط حماس وقف إطلاق النار، وهو ما ترفضه إسرائيل، وتعتبر أن أي هدنة ستكون مؤقتة.
المعلن أمريكيا حول هذه الزيارة وأهدافها ترجمته تصريحات مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جيك سوليفان التي قال فيها إن القضايا الإنسانية في غزة ستكون على رأس أولويات بلينكن خلال جولته الحالية في الشرق الأوسط. ومن بينها تأمين المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزة الذين يعانون من ضائقة شديدة مع استمرار الهجمات الإسرائيلية منذ شهور. مؤكدا أن احتياجات الشعب الفلسطيني ستكون في المقدمة وفي قلب (الأولويات).
لكن تصريحات سوليفان لم تدلي بالفكرة كاملة حتى نطق بها نائب مستشار الأمن القومي، جون فاينر، مؤكدا ان ما نؤمن به بقوة، هو أنه لا يمكن ولا ينبغي السماح لغزة بأن تكون منصة يمكن من خلالها شن هجمات مروعة ضد إسرائيل، وهذا هدف مشروع للغاية، ونعتقد بأنه قابل للتحقيق مشددا انه لا يمكننا العودة إلى بيئة ما قبل 7 أكتوبر في غزة، حيث يمكن لمن اسماهم (الإرهابيين) تهديد إسرائيل بهذه الطريقة .
مصادر أميركية مطلعة قالت ان بلينكن، يحمل معه في هذه الجولة، مطالب أكثر تحديداً من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وتتمثل المطالب الموجهة لإسرائيل بالشروع في التفاوض مع حركة "حماس" على صفقة لتبادل الأسرى ضمن صفقة الإطار المقترحة من جانب الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر، وإنهاء الاجتياح البري لقطاع غزة، والسماح بدخول كميات كافية من مواد الإغاثة الإنسانية، لجميع مناطق القطاع، والاستعداد لعملية سياسية إقليمية تقوم على حل الدولتين، فلسطين إلى جانب إسرائيل.
من جهته يري الكاتب محمد خروب ان مهمة بلينكن الجديدة تبدو مكرسة لانجاح صفقة باريس بما هي نتاج المباحثات الرباعية التي جرت في العاصمة الفرنسية كذلك وعلى نحو ُمواز وربما أكثر اهمية لملف التطبيع رأت فيها / صفقة باريس بعض العواصم الاقليمية وأيضًا إدارة بايدن, بأنها أقصى ما يمكن تحقيقه أو ما يمكن دفع تل ابيب لقبوله، فإن التعنت الذي تبديه حكومة العنصريين الصهاينة، يدفع للاعتقاد ان بلينكن على ِعلم بالمواقف الُمعلنة لأطراف الائتلاف الفاشي.
بدوره يؤكد المحلل السياسي محمد العالم، أن زيارة «بلينكن» الخامسة للمنطقة ستتناول سيناريوهات ما بعد انتهاء الحرب في غزة، بالإضافة إلى مناقشة الضربات الأمريكية في سوريا والعراق واليمن. لافتا إلى أن الزيارات السابقة لوزير الخارجية الأمريكي لم تؤثر بشكل كبير على الأحداث، نتيجة للتصريحات غير الجادة من مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، والتناقض في التصريحات يقلل من مصداقيتها، ومن الصعب التوصل لاتفاق حول نهاية الحرب أو حتى هدنة.
اليوم التالي للحرب يشمل المنطقة..
الهدنة وانهاء العدوان كانت من بين ملفات عدة حملها بلينكن في جولته المكوكية الى الشرق الأوسط منها ملف التطبيع بين كيان الاحتلال والمملكة العربية السعودية والذى توقف على اثر العدوان على غزة ويسعي الوزير في توقيت الحرب الى ربط هذه المسارات ببعضها البعض في اطار حل يشمل الجميع على اعتبار ان اليوم التالي للحرب لا يقتصر على مستقبل غزة بل المنطقة باسرها .
هذا التصور السياسي اكده وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والذي قال إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أكد على "اهتمامه" في إقامة علاقات مع إسرائيل لكنه يريد وضع حد لحرب غزة ومسارا نحو دولة فلسطينية. مضيفا ان ولي العهد السعودي أوضح أيضا ما قاله لي من قبل، وهو أنه من أجل القيام بذلك، لا بد من أمرين، إنهاء النزاع في غزة ومسار واضح وموثوق ومحدد زمنيا لإقامة دولة فلسطينية".
الحشد الإقليمي لمواقف واشنطن يبدأ من الرياض كما يبدو حيث كشفت صحيفة الجارديان البريطانية، ان وزير الخارجية يحمل شيئًا أكثر جوهرية في أوراقه الموجزة: "صفقة كبرى" تتضمن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وتحرك جوهري نحو الاعتراف بدولة فلسطينية، وكل ذلك مدفوع بالحوافز الدبلوماسية والاقتصادية من واشنطن. هذا التوجه ينسجم مع تقارير تتحدث عن إعداد دول كبرى وإقليمية خطةَ عمل تبدأ بهدنة في غزة وتنتهي باتفاق إقليمي كبير قبل يونيو المقبل
الإشارات الامريكية حول خطة يجري اعدادها كان قد صرح بها بلينكن في حديثه في دافوس الشهر الماضي، عندما قال إن هناك "معادلة جديدة" في الشرق الأوسط، حيث يكون جيران إسرائيل العرب والمسلمون مستعدين لدمج إسرائيل في المنطقة لكنهم بحاجة إلى رؤية طريق لإنشاء دولة فلسطينية، ومن سيحكم غزة في أعقاب الحرب، وكيف تحتاج السلطة الفلسطينية إلى الإصلاح حتى تتمكن من حكم القطاع والحصول على ضمانات أمنية لإسرائيل، مضيفا أن تحقيق النتائج إن حل أي منها أو جميعها سيتطلب تنازلات من الإسرائيليين والفلسطينيين.
بدوره قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر إن بلينكن والأمير محمد بن سلمان "ناقشا أهمية بناء إقليم أكثر اندماجاً وازدهاراً، وأكدا الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية". موضحا أن الوزير الأميركي وولي العهد السعودي ناقشا كذلك "الحاجة العاجلة إلى خفض التوترات الإقليمية، بما في ذلك وقف الهجمات الحوثية التي تقوض حرية الملاحة في البحر الأحمر، والتقدم في عملية السلام باليمن"،
في الاطار يقول الباحث في العلاقات الدولية، سالم اليامي أن زيارة وزير الخارجية الأميركي للرياض هي جزء من جهود مستمرة للبحث عن وسائل لمعالجة وإخماد التوتر في منطقة الشرق الأوسط، مضيفا على الرغم من المحاولات التي قام بها بلينكن خلال الخمسة أشهر الماضية تبين أن هناك هدوءًا في التعامل، مما حال دون تحقيق النجاحات المرجوة، وان ردود فعل الولايات المتحدة الأخيرة تتنافى مع الرؤية الأميركية لاحتواء وعدم التصعيد في المنطقة.
التحركات الامريكية بين الرياض والقاهرة وعواصم اخري دفعت الباحث آرون ديفيد ميلر، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، الذي عمل في المفاوضات العربية - الإسرائيلية لأكثر من عقدين من الزمن: للتساؤل ما الدولة العربية التي ستتطوع للقيام بعملية حفظ السلام في غزة؟ مشيرا إلى أن السعي إلى إجراء مفاوضات نحو حل الدولتين قد يكون أمراً خيالياً، ويبدو بعيداً عن التحقيق، لكن إدارة بايدن ومسؤولي الإدارة يقولون إنهم جادون في هذا المسار.
شكوك في نتائج الزيارة
حصاد التحرك السياسي الأمريكي والذى قاده بلينكن رأى فيه البعض ان مصيره الفشل وان أمريكا غير جادة في وقف هذا العدوان وتحاول المناورة وكسب الوقت خدمة لتل ابيب، فالأهداف والمسارات المعلنة للزيارة تشى ان الإدارة الامريكية تدير حملة علاقات عامة قبل الانتخابات بعدما تدني رصيدها على وقع الحرب .
الباحث البارز بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي شارك في المحادثات الإسرائيلية - الفلسطينية خلال إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما ديفيد ماكوفسكي، يقول إن الأهداف الأميركية في التوصل إلى سلام وتنفيذ حل الدولتين «أهداف مرغوبة»، لكن ليس من الواضح مدى قابلية هذه الأهداف للتطبيق. ورغم أن مسار الحرب يعطي لإسرائيل اليد العليا، فإنه ليس من الواضح كيف سيكون الفوز، وحسابات الخسائر.
بدوره يرى خبير العلاقات الدولية، أشرف عكة إن وقف إطلاق النار هو الملف الرئيس الآن، والحديث عن أي ملف غيره يصبح بلا فائدة، ولذلك فإن هذه الجولة لوزير الخارجية الأميركي محكومة بالفشل، من دون تحقيق النجاحات المأمولة، ويبدو أن إدارة الرئيس بايدن قد خضعت للإملاءات الإسرائيلية، وكل ما يتحدثون عنه مجرد تخفيف القصف وعودة سكان الشمال بعد تشكيل لجنة أممية لتقييم الأوضاع، وإدخال المساعدات الإنسانية!!
الى ذلك شكك أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط تاج الدين الحسيني، ، في إمكانية أن تمارس الولايات المتحدة ضغطا على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق لإطلاق النار. مضيفا لا أعتقد أن بلينكن سيكون ناجحا بالشكل المطلوب في مهمته، لأن العروض التي يقدمها تقتصر فقط على الإفراج عن حوالي 200 أسير فلسطيني لدى إسرائيل مقابل إطلاق سراح 35 من الأسرى في غزة، منهم أميركيون”. معتبرا أن هذا العرض الذي يرتبط فقط بـ6 أسابيع من الهدنة “لن يكون في صالح الفلسطينيين على الإطلاق
في الإطار ذاته قال أستاذ النزاعات الإقليمية والدولية، دكتور علي الأعور، إن بلينكن لم يتمكن حتى من إجبار نتنياهو على تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية.. وحتى حديث بلينكن عن لجنة أممية لتقييم الأوضاع في شمال غزة، ليس من إنجازات زيارة بلينكن، لأننا جربنا تلك اللجان في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ثم أصبحنا نعيش في الخيام.. ثم هل يعقل بعد 120 يوما من العدوان الإسرائيلي الشرس والهمجي على غزة أننا أصبحنا نحتاج إلى لجنة أممية، كل هذا مجرد ذر للرماد في العيون