لم يحضر النظام السوري في كل معارك فلسطين مع إسرائيل الا عبر التصريحات والمواقف النارية دون طلقات وأن جبهته كانت دوما أكثر استقرار من غيرها بالنسبة للاحتلال
ومثلت فلسطين جزء من الخطاب الرسمي الذي زايد فيه النظام على المجموع العربي في كل قمة او اجتماع حتى موعد العدوان على غزة في السابع من أكتوبر حيث فُقد اثر الموقف السوري الى حد الغياب واكتفي بالتصريحات والمواقف التضامنية الى جانب تلقي الضربات الإسرائيلية دون ان يحرك ساكنا ودون ان يترجم العنفوان الثوري تجاه فلسطين الى جبهة تهديد
رغم أنه حمل لواء الممانعة باعتباره جزء من هذا المحور سجل غياب تام مما دفع بالعديد من المراقبين والمتابعين الى السؤال عن أسبابه والتي تعددت فيها الإجابات ما بين موقف النظام من حركة حماس ابان الازمة السورية عام 2011 رغم المصالحة بين الطرفين الا ان النظام لم يتسامح كما يبدو مع الفصيل الفلسطيني.
فيما رأى اخرون ان سوريا اختارت سياسة النأي بالنفس في ظل الازمات واضطراب الخارطة الدولية التي تشكل تهديدا حقيقي لبقاء النظام، بالإضافة الى الحسابات الإيرانية والروسية لكن على كل الأحوال ما كان بمقدور النظام السوري احداث أي تغيرات استراتيجية هذه المواجهة لا بالتضامن ولا بالمشاركة.
ذريعة الموقف من حماس
منذ 50 عاماً أخرجت الجبهة السورية من دائرة التهديد او القلق بالنسبة لإسرائيل ضمن اتفاقيات وترتيبات أمنية بموجب الهدنة عام 1974 وانحصر العداء في الخطاب الرسمي لتأتي حرب غزة وتكشف عن هشاشة هذا الموقف واعتبارات مصلحة النظام الذي يدافع عن وجوده اكثر من أي قضية أخرى.
ويجمع العديد من المراقبين ان خلفيات الموقف الرسمي السوري من هذه الحرب تعود الى عام 2012 بعد الازمة السورية وموقف حماس منها والذى وصفه الرئيس بشار الأسد في احد لقاءاته بوضوح انه موقف غدر وان العلاقات مع حماس لا يمكن أن تعود كما كانت عليه في السابق.
رغم اعلان النظام ان علاقته مع حماس كما اسماها تبقي ضمن المبدأ العام وهو مساندة أي طرف يقف في وجه إسرائيل الا انه لم يتسامح خلال هذه المعركة كما يقول الكاتب مروان قبلان بالرغم من تعاطف السوريين، باختلاف مواقفهم السياسية، مع قطاع غزّة، ولوحظ أن النظام والمعارضة، على السواء، يتجنّبان تسجيل مواقف واضحة من الحرب، إذ امتنع النظام، خلاف بعض التصريحات التقليدية المساندة للقضية الفلسطينية، عن توفير أي دعم لحركة حماس، رغم المصالحة التي جمعت الطرفين في أثناء زيارة وفد "حماس" إلى دمشق في أكتوبر 2022، نتيجة وساطة من حزب الله وإيران، ويعود ذلك على الأرجح إلى عدم قدرة النظام على تجاوز محطّة 2012 عندما قرّرت حماس مساندة المعارضة السورية
من جهته قال الكاتب حازم صاغية في سوريّا الأسديّة، كما نعرفها، عادةً ما تكون الألسنة في موضوع فلسطين أنشط من المدافع وأعلى صوتاً، أمّا اليوم فلا ألسنة ولا مدافع. وبدوره فكلّ من يتذكّر الجهود الدمويّة المبذولة لإلحاق الهزيمة بـ «العرفاتيّة» و"تفريطها"، أو لدحر «الانعزاليّة اللبنانيّة المتحالفة مع إسرائيل»، أو للتنكيل بالمعارضين السوريّين الذين «يخدمون» الصهيونيّة والإمبرياليّة، ستبدو له سوريّا الأسديّة أقرب إلى نسيان فظيع، وهذا كي لا نذكّر بـ «تحرير فلسطين» الذي كان المتوقّع أن يضخّه، ذات يوم، «قلب العروبة النابض»،
تقديرات سياسية نحت صوب ان عزوف النظام السوري عن التدخل مباشرة في الحرب الحالية في غزة يتمثل أبرزها في تجنّب رفع مستوى التصعيد الإسرائيلي والأمريكي ضده، والرد على موقف حماس من الأزمة في عام 2012، فقد كان لافتاً من بين كل حلفاء إيران أن النظام السوري تحديداً لم يتدخل بأي شكل في الحرب التي تدور رحاها بين إسرائيل وحركة حماس في الوقت الحالي، صحيح أن هجمات عديدة انطلقت من هضبة الجولان ضد إسرائيل، لكنها هجمات منسوبة لمليشيات فلسطينية موجودة في سوريا، في حين أن النظام لم ينخرط حتى عبر إطلاق تصريحات داعمة لحماس ضد الاحتلال .
ليست حماس وحدها بيت القصيد كما يرى العديد من المراقبين فموقف النظام من حرب غزة وان كان يتعلق أساساً بالموقف من حماس، الا النظام لا يملك أصلاً القدرة على القيام بأي عمل عدائي من الناحية العسكرية تجاه إسرائيل، ولا حتى على وَقْف الأعمال العدائية الإسرائيلية على أراضيه، كما أنه لم يَقُمْ حتى باستخدام الهوامش المتسامَح فيها دولياً، والتي استخدمها كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، من السماح بالمظاهرات، ورفع سقف التصريحات.
في السياق يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة دمشق عقيل محفوض، لا يزال الموقف بين دمشق وحماس معقدا وبعيدا عن الوصول لحلول أو تسويات، فالتقارب النسبي ليس نتيجة قناعات مباشرة لديهما بل بوصفه استجابة لإكراهات الموقف الإقليمي، والتشارك في العداء لإسرائيل، مضيفا بالنسبة لدمشق، لا تمثل معارك حماس أولوية الآن، فحماس ليست فلسطين، ولا هي كل الشعب الفلسطيني، وعليه فالموقف السوري من الحرب في غزة، هو مع حق الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال، وهو ما لا يضع سوريا في معركة لم تتضح خططها ولا رهاناتها، ولا أفقها، فضلا عن عدم الثقة بـ"الفاعل".
من الصبر الى الضعف الاستراتيجي
مقُتل المستشارين الخمسة في الحرس الثوري الإيراني من بينهم مسؤول في الاستخبارات في ضربة إسرائيلية بالعاصمة السورية يحيلك الى طبيعة الدور الوظيفي الذى تلعبه سوريا اليوم والذى يخرجها من دائرة التأثير بسبب الاستلاب الإيراني للقرار والإرادة السياسية ويحولها الى مجرد وكيل في المنطقة لا يختلف دورا عن حزب الله وسعي النظام الى إخفاء هذا الضعف تحت عنوان الصبر الاستراتيجي .
في سوريا يقرأ المقربون من النظام ان الصمت يعود مرده الى سياسة "الصبر الاستراتيجي"، التي تعني أن "الرد" منوط بقرار النظام وحده. وهو ما نقلته صحيفة "البعث"، التي يديرها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا إن "الضربات الإسرائيلية لن تستفز هدوء سوريا الاستراتيجي، والسياسة السورية ترتكز على التحوط والابتعاد عن ما اسمتها المغامرات غير المحسوبة".
في المقابل يرى المحلل المختص بعلم المخاطر والأمن والصراعات موسى قرقور ان "سياسة الصبر الاستراتيجي" مصطلح تخديري اخترعه النظام السوري من أيام حافظ الأسد من أجل تهدئة الجماهير وإيهامهم أنه يعد العدة من أجل تحرير فلسطين"، مضيفا ان "استخدم النظام هذا المصطلح لتحويل 75% من ميزانية سوريا إلى وزارة الدفاع، من أجل الترويج بأنه يعد العدة لقتال "إسرائيل" وطردها من المنطقة، فيما استخدم الاسلحة لقتل شعبه.
لكن هناك من يرى ان لا إرادة سياسية في دمشق وان القرار انتقل الى طهران حيث بيت دراسة صادرة عن المعهد القومي الاسرائيلي ان سبب عدم التدخل السوري نتيجة لتوجيه من المحور، وليس نابعاً حصرياً من قرار الأسد، إن إيران، على الرغم من طموحها المتمثل في فتح أوسع ساحة مواجهة مع إسرائيل، غير مستعدة للتضحية بما أنجزته في سورية لمصلحة "حماس"، كون البلد مركزاً إقليمياً ولوجستياً مهماً، بل ترغب في الحفاظ على هذه الإنجازات في حال جرت مواجهة بينها وبين إسرائيل، أو بين حزب الله وإسرائيل.
هذا الموقف تشاركه الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي الذي أكد ان موقف بشار الأسد يبقى مرتبطاً بإيران وروسيا. مشيرا الى ان "الإمارات و سلطنة عمان نقلتا رسائل تحذير واضحة للنظام لتجنب الإنخراط في المواجهة، ناهيك عن أن إيران أصلاً لم ترِد فتح الجبهة الشمالية، فموقف النظام مرتبط بالموقف الإيراني والروسي، بمعنى أنه ليس موقفاً ناتجاً عن سياسة مستقلة يسوقها ويطلب ثمنها".
في الاطار ذاته كشفت مصادر إسرائيلية ان تل ابيب نقلت عبر حليفها الامارتي رسائل الى القيادة السورية بشان الحرب في غزة تحذر فيها من أي تدخل لسوريا في الحرب الدائرة في غزة أو هجمات ضد إسرائيل من الأراضي السورية، وذكرت المصادر أن الإماراتيين نقلوا الرسائل إلى سوريا على أعلى مستوى، وأبلغوا الإدارة الأمريكية بعد ذلك بمحادثاتهم مع سوريا بشأن قضية غزة.
الحياد السوري... والرضي الغربي والامريكي
الحياد والصمت السوري خلال هذا العدوان ليس مخيفا وان جري تضخيمه إعلاميا من قبل أطراف مقربة من النظام بل هو استثمار وجد فيه النظام فائدة بعدما اتجهت الأنظار بعيدا عما يجري في سوريا وسعي الى اعطاء صورة مغايرة للغرب والولايات المتحدة
يقول محلل شؤون الشرق الأوسط، مالك العبدة، إن نظام الأسد يعمل هنا أيضا على الاستفادة من حياده غير المعلن في حرب غزة لتخفيف العقوبات عن نفسه ونيل المساعدة الاقتصادية، حيث التزمت السلطات الصمت حتى عندما اغتالت إسرائيل ضباطا رفيعي المستوى في الحرس الثوري الإيراني في دمشق. ولم يكن هذا مجرد رد فعل سلبي على تهديدات إسرائيل بالبقاء خارج الصراع، بل شكّل محاولة حكومية لتقديم دمشق نفسها طرفا مفيدا في أوقات الأزمات.
بدوره يشير الخبير الاستراتيجي والباحث في معهد "ستيمسون" في واشنطن، عامر السبايلة إلى أن "طبيعة انخراط النظام السوري في كل المواجهات السابقة لم تكن بصورة مباشرة"، وأن "السوريين في الوقت الحالي غير معنيين في أن يكونوا في مواجهة مباشرة وضمن الخط الأول"، وعلى العكس "هم معنيون بتخفيف الضغط عليهم في هذه المرحلة".
هذا التحول في الموقف السوري تعود جذوره الى أسباب اخري كما يعتقد الباحث الأمريكي والمختص في شؤون الشرق الأوسط ألكسندر لانغلويس أن التعليقات العامة التي صدرت من النظام السوري خلال الأيام الماضية لا ترقى إلى موقف سوريا التقليدي من فلسطين وإسرائيل"، مضيفا إن "دمشق يبدو أنها تتجنب إلى حد كبير الإشارة المباشرة إلى حماس"، مشيرا إلى ان "دمشق تمثل لاعبا ضعيفا بشكل لا يصدق في المنطقة اليوم، الأمر الذي يقدم أسبابا مقنعة لعدم اتخاذها موقفا أقوى بشأن الصراع هذا الشهر".
ويقول الكاتب بكر صدقي ان الحالة المزرية للنظام السوري على جميع الأصعدة لا تسمح له بترف اللعب المحسوب مع الإسرائيليين والأمريكيين بهدف «استدراج العروض السياسية» على ما كان يفعل في عهد حافظ الأسد، حتى لو كان غيره من يقوم باللعب كالميليشيات التابعة لإيران، على العكس هو اليوم أكثر حاجة من إيران نفسها ليظهر أمام الأمريكيين بمظهر المنضبط .