بين حسابات طهران ومحرقة غزة

الردع الإسرائيلي الناجح في لبنان وسوريا

جيش الاحتلال في غزة
جيش الاحتلال في غزة

تثبيت قواعد الاشتباك على الجبهات المتعددة التي تشكل تحديا لكيان الاحتلال الإسرائيلي حال حتى الان دون تطور الصراع الى مواجهة إقليمية أوسع على وقع العدوان الذي تقوده تل ابيب على قطاع غزة منذ 7 من أكتوبر.

هذه القواعد تشكل امتداد لسياسة الردع الاستراتيجي، والتي تعني المحافظة على ميزان الصراعات القائمة لجهة عدم تحولها إلى تفعيل القوة العسكرية، وتمكنت إسرائيل من خلال مفهوم الردع بالعقاب او المنع من احتواء المخاطر والتهديدات خاصة على الجبهتين السورية واللبنانية مصدر القلق الدائم للاحتلال، وتحويلها من جبهة اشتباك الى تضامن كما أعلن سابقا الأمين العام لحزب الله.

ربما اغتيال القيادي العسكري في الحزب وسام طويل، والقيادي في حماس صالح العاروي جنوب لبنان هو الأثر الواضح لهذه السياسية، وتجلى نجاح هذه النظرية على صعيد الجبهة السورية، والتي ابقتها إسرائيل تحت الردع المفعل الى حد وصف فيه قادة الاحتلال مخاطر الجبهة السورية بانها باتت تساوي صفر.

لبنان ... عقيدة الضاحية وميزان الرعب

منذ عام 2006 تطورت معادلات القوة لدى جميع الأطراف إسرائيل - وحزب الله، لكنها ظلت محكومة بنظرية الردع المتبادل حتى بدت تتآكل مع الحرب الأخيرة على قطاع غزة، حيث قرر حزب الله الدخول على خط المواجهة، لكن دون الانخراط في حرب واسعة، وهو ما اعتبرته تل ابيب الى الان نجاح لنظرية "عقيدة الضاحية" التي ظلت تلوح بها في وجه حزب الله 

 

حيث سعت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر الى ابقاء لبنان وحزب الله تحت طائلة الردع وفق خطوط وقواعد اشتباك متوازنة، بالإضافة الى رسائل التهديد التي انطلقت عشية الحرب وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت"، التي أكدت إن إسرائيل حذّرت الأمين العام لحزب الله في لبنان حسن نصر الله، من مغبّة الانضمام إلى حركة حماس في الحرب الجارية مع إسرائيل، وإنه في حال حدوث ذلك سيتوجب عليه مواجهة القوة الكاملة لجيش الاحتلال، والمدعومة بالقوة البحرية الأميركية التي تشق طريقها إلى شرق البحر المتوسط. وتضمنت الرسائل تحذير من أن انضمام حزب الله إلى المعركة سيدفع إسرائيل إلى التصرف بأسلوب "صاحب البيت الذي جن جنونه"، وستلحق الضرر بحليفه المهم، الرئيس السوري بشار الأسد، كما سيتم تدمير العاصمة السورية دمشق والضاحية الجنوبية (معقل حزب الله) في العاصمة بيروت .

هذه التحذيرات ظلت تتردد في خطابات قادة الحرب الإسرائيليين من عواقب وخيمة في حال قرر حزب الله توسعة رقعة الحرب الحدود الشمالية حيث قال وزير الحرب الاسرائيلي يوآف غالانت لجنوده قرب الحدود اللبنانية الإسرائيلية إن "حزب الله يجر لبنان إلى حرب قد تحدث". مضيفا ان (الحزب) يرتكب أخطاء، وأن الذي سيدفع الثمن في المقام الأول هم المواطنون اللبنانيون. ما نفعله في غزة يمكن أن نفعله في بيروت".

الاشارت التي صدرت عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله حول طبيعة عمل الجبهة اللبنانية خلال الحرب على غزة تؤكد ان الحزب لا يسعى الي توسعة حلقة النار كما يرى مدير مركز دراسات الغد سامي عطا الله، أن توازن الردع هو ما حكم العلاقة بين حزب الله وإسرائيل منذ انتهاء حرب تموز عام 2006 وإن كانت المناوشات المستمرة على الحدود والتي خسر خلالها حزب الله أكثر من 150 مقاتلا، هي التصعيد الأخطر فيها. وإن كان نصر الله قد أبقى على الغموض، إلا أنه "بدا واضحا في تحديد دور واستقلالية المقاومة الفلسطينية بهجوم حماس في السابع من أكتوبر، كما حيّد إيران وحزب الله عن الهجوم"

فيما يرى اخرون ان حسابات حزب الله من حيث عدم توسعة رقعة وتكلفة المواجهة، واقعية بالنظر الى الوضع اللبناني الداخلي المتفاقم، حيث اعتبر الكاتب حسن عليق، ان الحزب يسعى حقاً إلى عدم توسيع رقعة الحرب يبدو معنياً ببقاء الجنوبيين في منازلهم، قدر المستطاع. وهو يأخذ في الحسبان الواقع اللبناني المعقّد سياسياً واقتصاديا، لكنه ليس مستعداً لتقديم تنازلات. وهو لا يرى أن "إسرائيل" في وضع يسمح لها بأن تعوّض على الساحة اللبنانية الخسائر الاستراتيجية التي ألمّت بها نتيجة عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

قرار الحرب في طهران وليس لبنان هكذا يرى الخبير الاستراتيجي والمحلل في شؤون الشرق الأوسط سامي نادر، أن ما يحدث على الحدود اللبنانية الإسرائيلية حتى الآن، مجرّد "تسخين للجبهة، وليس لفتح الجبهة"، مشيراً إلى أن "حزب الله يتجنب حتى الآن استدراج إسرائيل إلى عمل عسكري مكلف للغاية، خاصة أن "لبنان فقد مقومات الصمود أمام عملية عسكرية واسعة أو حرباً مفتوحة، لأن البلد لا يمتلك القدرات التي كانت موجودة في عام 2006"، مضيفا إن "قرار فتح الجبهة اللبنانية مع إسرائيل تتخذه إيران، وليس (حزب الله).

لكن إسرائيل ورئيس وزرائها المثقل بحرب غزة يسعي كما يبدو الى توسعة نطاق المواجهة لضمان إطالة مستقبله السياسي من خلال استفزاز حزب الله وجره الى نوع من الردود التي يمكنها توريط الجميع في صراع إقليمي بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية التي تحدثت عن معادلة صعبة يواجهها حزب الله اللبناني بعد اغتيال العاروري؛ إذ لا يمكنه إلا أن يرد على ما يعتبره استفزازا من طرف إسرائيل في معقله ومن جهة أخرى فإن أي رد قوي يخاطر بجر حزب الله إلى حرب شاملة مع إسرائيل ظل يتحاشاها منذ الثامن من أكتوبر ".

الاستدارة بالحرب نحو الشمال لم يكن مجرد تحذيرات بل حقيقة كادت ان تحدث وتنهي «العقد الهادئ» كما يزعم وزير الحرب السابق غادي أيزينكوت إنه منع إسرائيل من مهاجمة حزب الله في لبنان بشكل استباقي في الأيام التي أعقبت هجوم حماس في السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل، مضيفا أنه أقنع المسؤولين في حكومة الحرب بتأجيل تلك الخطوة. قائلا "أعتقد أن وجودنا هناك منع إسرائيل من ارتكاب خطأ استراتيجي فادح".

سوريا .. الردع الحذر  

لا تزال سوريا بعيدة عن وضع كونها تهديد استراتيجي فوري امام كيان الاحتلال لكن ترميم قوتها يسير بوتيرة متسارعة مما يجعلها تهديد محتمل، هكذا خلص تقرير اعدة معهد أبحاث الامن القومي الإسرائيلي لكن مخاطر الجبهة السورية في جوهرها لا تتعلق بقدرات الجيش السوري الذى لم يتعافى من تداعيات الازمة الداخلية، بل بالنشاط الإيراني الذى حول دمشق الى قاعدة خلفية لطهران لذلك تحاول تل ابيب إبقاء سوريا تحت طائلة الردع.

لباحث في وكالة أبحاث الدفاع السويدية (FOI) ومؤسسة "سينتوري الأميركية"، أرون لوند قال ان إسرائيل تواجه خطر التصعيد مع لبنان لذا فإن "دور سوريا كممر لوجستي يأخذ أهمية جديدة لكلا الجانبين السوري واللبناني، وهو ما يفسر زيادة عدد وتكرار الهجمات الإسرائيلية في سوريا، مثل الاستهدافات المتكررة لمطاري دمشق وحلب"، معتبراً أن "الهجمات الإسرائيلية هي رد فعل، وهو محاولة لردع التورط السوري في وقت تواجه فيه إسرائيل الكثير من التحديات".

صحيفة الشرق الأوسط نقلت عن مصادر مطلعة مخاوف من إن دمشق وطهران تتوجسان من توسع الحرب نحو جنوب سوريا ولبنان، وليس في مصلحة أي من الأطراف الدولية توسع الحرب، لأنها ستسرع في تغيير المعادلات والتوازنات في ساحة الصراع، وما يجري الآن هو سعي إسرائيل إلى إضعاف الوجود العسكري الإيراني في سوريا ولبنان، وإبعادها عن حدودها. وأنه مع استمرار المناوشات على الحدود يخشى من توسع الحرب، لافتة إلى أن الأمور «لا تزال ضمن إطار تبادل الرسائل»

اتساع نطاق وحدة الضربات الإسرائيلية للأرضي السورية على وقع الحرب على قطاع غزة بشكل كبير بعدما بدت تلوح في الأفق ملامح سيناريو مواجهة إقليمية قد تنتهي لها الاحداث أكدتها مصادر إعلامية نقلا عن مسؤول بالمخابرات العسكرية السورية، أن إسرائيل غيّرت استراتيجياتها في أعقاب الهجوم الذي شنته حركة «حماس» على إسرائيل في السابع من أكتوبر على الرغم من أن إسرائيل عمدت إلى ضرب أهداف مرتبطة بإيران في سوريا لسنوات، بما في ذلك المناطق التي تنشط فيها جماعة «حزب الله» فإنها تنفذ حالياً غارات جوية أكثر فتكاً وتواتراً تستهدف عمليات نقل الأسلحة الإيرانية وأنظمة الدفاع الجوي في سوريا.

تحديات الجبهة السورية ظلت حاضرة في كل التقارير الإسرائيلية والغربية وكان تقرير صدر عن معهد واشنطن للدراسات عام 2018 ، توقع أن تنشب هذه الحرب في 2019. حينها عن احتمال وقوع حرب "على نطاق لم يسبق له مثيل من حيث التعقيد - نتيجةً للحرب الأهلية في سوريا، التي مكنت إيران من بناء بنية تحتية عسكرية في سوريا، مضيفة انه أصبح من الممكن الآن أن تندلع الحرب على جبهات متعددة وفي أماكن بعيدة وتدور على الأرض، وفي الجو، وفي البحر، وفي مجال المعلومات والنطاق السيبراني من قبل مقاتلين من "حزب الله"، وإيران، وسوريا، والعراق، وأفغانستان، وباكستان، وحتى اليمن.

ايران لا سوريا هي مصدر القلق الإسرائيلي بحسب تقرير صادر عن مؤسسة راند للسياسات التي قالت انه كان ولا يزال نطاق النفوذ الايراني أحد المخاوف الرئيسية لاسرائيل في سوريا، سواء من خلال نشر القوات الايرانية أو عبر دعم طهران المكثف لحزب الله وقد استفحلت تلك المخاوف بعد أن نشرت إيران أعدادا كبيرة من القوات، وقام حزب الله بتعبئة آلاف المقاتلين لدعم نظام الأسد، حيث تعزز موقف إيران في سوريا بفضل التدخل الروسي العسكري نيابة عن نظام الأسد، الذي منح إيران وشركائها مساحة أكبر للمناورة ولربما لتقييد قدرة إسرائيل على اتخاذ إجراءات عسكرية.

يقول المختص في الشئون الإيرانية محمود البازي ان تركيز إسرائيل في استهدافها لإيران على الساحة السورية ذلك لأنها الأقل تكلفة وهي المساحة التي لن تحوِّل هذه المواجهات غير المباشرة إلى مواجهة كلاسيكية مفتوحة تبدو إسرائيل غير قادرة على خوضها حاليًّا، بينما تعتبر إيران سوريا عمقًا إستراتيجيًّا ومساحة لتحقيق الردع المتقدم؛ وبناء على جميع ما تقدم، فإن المواجهة ستستمر بين الطرفين، كما أن خيار التحول إلى المواجهة المباشرة قائم وقد يكون نتيجة لسوء حسابات أو ردود عسكرية غير مدروسة أو مفرطة.

الردع المتبادل

حتى حزب الله يرى انه فرض نوع من الردع على إسرائيل وأبقي عدوانها تحت السيطرة ومتغيرات القوة التي يمكنها قلب المعادلة، اذا ما قررت الأخيرة مهاجمة الحزب وان ما يجري على الحدود الشمالية لا يعدو كونه رسائل متبادلة بالنار لكنها منضبطة حيث تسمح للاحتلال بممارسة استعراض الردع فيما ترفع عن الاخر حرج المغامرة العسكرية بعد انهيار نظرية وحدة الساحات .

حيث كشفت وثيقة استخباراتية أميركية مصنفة "سرية للغاية" نشرتها صحيفة "واشنطن بوست"، أنه من غير المرجح وقوع هجوم واسع النطاق من قبل حزب الله اللبناني على إسرائيل، ووفقا لتحليل أعدته مديرية الاستخبارات لهيئة الأركان المشتركة في فبراير السابق، فقد استقرت إسرائيل وحزب الله على موقف "الردع المتبادل" منذ إبرام اتفاق أكتوبر 2022، الذي وافق فيه لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها.

الى ذلك اعتبر تقرير صادر عن مجموعات الازمات الدولية ان تصعيد حزب الله لهجماته يهدف إلى تحقيق التوازن، فمن جهة يبدو أنه استنتج أنه لا يستطيع أن يقف على الحياد تماماً، بالنظر إلى أن الدفاع عن فلسطين ودعم حلفائه في ”محور المقاومة" عنصران رئيسيان في موقفه الأيديولوجي والاستراتيجي، ومن جهة أخرى، يبدو أن حزب الله، وأيضاً إيران التي تقدم له الرعاية والإمداد، حريص على المحافظة على الأصول العسكرية التي اكتسبها – والتي تشكل عنصراً محورياً في إستراتيجية إيران الدفاعية ضد عدوان إسرائيلي – بدلاً من حرقها على محراب إنقاذ حماس

من جانبها، قالت مديرة إدارة الصراع في معهد الشرق الأوسط بواشنطن راندا سليم ، إن أغلب الخبراء الإقليميين متفقون على أن "قرار تحويل هذا الوضع إلى حرب مفتوحة يتوقف بشكل رئيسي على إسرائيل"، في نفس الشأن "كان تصعيد حزب الله على طول الحدود متناسباً ومتزايداً في نمط المعاملة بالعين".

بدوره اعتبر الكاتب منير الربيع  أن الجنوب اللبناني قد أضحى في حالة حرب حقيقية، آخذة بالتوسع رويداً رويداً.. إلى جانب تصاعد تهديدات الإسرائيليين لفرض اتفاق "يعيد الأمن والاستقرار" إلى المستوطنات الشمالية، بالدبلوماسية أو باللجوء إلى حرب، هذا بغض النظر عن القدرة الإسرائيلية على تحقيق ذلك عسكرياً. لكن لبنان اليوم  يقع بين احتمالين. إما اقتناع حزب الله بالردع السياسي أو البقاء أمام معادلة الردع التي يختارها، وتكاليفها التي ستكون مرتفعة جداً.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo