السلطة الفلسطينية والحصاد المر من التطبيع

محمود عباس مع ولي عهد السعودية
محمود عباس مع ولي عهد السعودية

(1) التبدل الفجائي

في خضم مسار التطبيع الذي تسعي اليه دولة الاحتلال من اجل تثبيت وجودها وشرعيتها في المنطقة, تبقى علامات استفهام كبيرة حول دور السلطة الفلسطينية في التشجيع او المعارضة لهذا المسار.

الشيء الطبيعي والمفترض ان السلطة الفلسطينية هو أن تقف بقوة ضد التطبيع مع دولة تتعامل معها بأقصى درجات الاستخفاف والتجاهل وترفض الاعتراف بها او التعاطي معها على ارض الواقع, بل تسعى الى اضعافها وتقليم اظافرها وتحويلها الى مجرد مقاول أمني.

غير أن تبدل الحال في منطقة الشرق الاوسط اصبح معتادا, والتغيرات والتقلبات الفجائية صارت مألوفة , واضحت دول تنتقل من الشمال الى اليمين ومن اليمين الى الشمال دون مقدمات!!

دولة الاحتلال تسابق الزمن لكي ترسخ علاقاتها مع دول المنطقة, وتعتبر ذلك جزءا من استراتيجيتها الامنية والسياسية في تعزيز وجودها, وكذلك في الغاء الدور الفلسطيني والغاء قضيته من على جدول الدول العربية.

في غفلة من الزمن أقدمت دول عربية مثل السودان و الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في صفقات تم التوسط فيها من قبل الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب. هذه الدول لم يكن لها مبرر او تقدير فائدة من هذا التطبيع سوى انه جاء استجابة للضغوط – وكذلك الاغراءات- الامريكية التي وعدت هذه الدول برفع اسمها من قائمة الارهاب وزيادة وتيرة سرعة اقتصادها وازدهارها.

هذه الدول وقعت في فخ التطبيع وسارت اليه على عمى وعجل عسى أن تحصد ثماره, معاكسة في ذلك ارادة شعوبها التي ترفض تقبل اسرائيل كدولة في المنطقة.

(2) السلطة خارج التغطية

السلطة الفلسطينية كانت تراقب مسار التطبيع وهو يسير من تحت قدميها دون أن تكلف نفسها اتخاذ موقف صارم, اللهم الا خطوات خجولة, كما شعرت انها خارج اطار الاتفاقيات الابراهيمية التي فرضها الرئيس الامريكي ترامب على دول التطبيع بعد أن أدار ظهره للسلطة الفلسطينية وتماهى مع توجهات حكومة نتنياهو في شطب شيء اسمه الحل السياسي.

السلطة شعرت بعجز شديد ولم يعد بمقدورها ان تقف امام هذا السيل الجارف من التطبيع وفضلت الا تفتح معركة خاسرة بعد ان وجدت نفسها أمام واقع لا مفر منه.

اقرأ أيضاً: المؤتمر الثامن.. حركة "فتح" إلى أين؟

أخيرا تفتق ذهن السلطة عن فكرة جهنمية !! ان تستثمر وتستفيد –أو على الاقل ان تتكيف مع التطبيع بدلا من رفضه او مقاطعته.

السلطة الفلسطينية فقدت الكثير من مقومات صمودها وقدرتها على الاستمرار كسلطة وطنية وحتى كسلطة قادرة أن تقوم بوظائفها الاعتيادية والمدنية, وخسرت الكثير من تأييدها وشعبيتها في الشارع الفلسطيني.

برنامجها السياسي وصل الى نهايته ولم يعد هناك أمل في احيائه, وباتت السلطة تعيش على أوهام السلام واستئناف المفاوضات والتغني بالشرعية الدولية.

والسلطة فقدت ثقتها بالادارة الامريكية التي أوصلتها البحر ثم أرجعتها عطشانة !!

لقد خدعت الادارات الامريكية المتعاقبة السلطة وغررت بها وظلت – طوال ثلاثة عقود- تعطيها الابر المسكنة من التسهيلات الاقتصادية وغيرها الى ان اوصلتها الى طريق مسدود.

ودولة الاحتلال بدورها لعبت بالسلطة ومارست عليها كافة انواع العقوبات والاستخفاف والتجاهل ورفضت مجرد اللقاء بها او اجراء المفاوضات معها , وفرضت عليها التنسيق الامني وان تتجرع اقتحام مناطقها و"تدنيس سيادتها".

والدول العربية لم تعد تعبأ كثيرا بالسلطة ولا مطالبها ولا بصراخها, وفضلت ان تبحث عن مصالحها وتخلت عن فكرة مركزية القضية الفلسطينية, وذهبت بعيدا في التماهي مع التوجهات الامريكية والاقتراب أكثر فاكثر من دولة كانت عدوها اللدود.

(3) مرحلة غير مسبوقة من الضعف

ومع كل هذا الوضوح, بقيت السلطة على حالها , لم تغير ولم تبدل, وظل الرئيس عباس يكرر ليل نهار انه "يمد يده للسلام" ويؤمن بحل الدولتين والتعايش مع الاحتلال ورفض أي شكل من اشكال المقاومة.

لقد كانت تعيش (خارج التغطية), وتسربل نفسها بكثير من الاوهام الكاذبة, ووصلت الى درجة غير مسبوقة من الضعف والهوان وفقدان البوصلة.

لقد رأت أن شعبها الفلسطيني يتعرض ليل نهار الى المذابح الاسرائيلية من خلال عمليات القتل والاجتياح للمدن والقرى وتوسيع المستوطنات ومصادرة الاراضي ولم يعد بمقدورها ان تفعل شيئا سوى البيانات الباهتة والتصريحات الاعلامية الممجوجة.

لم يعد للسلطة دور سوى ان تظل على عهد التنسيق الامني مع الاحتلال, طوعا أو كرها, ولم يعد امامها خيارات بل حشرت نفسها في ممر ضيق لا يمكن الخروج عنه.

هذا الواقع المزري للسلطة الفلسطينية دفعها الى ان ترتكب المحرمات السياسية وان تلج في دائرة "الكبائر" الوطنية وأن تعفي نفسها من كثير من المسئوليات الوطنية, وفضلت ان تتعايش مع هذا الواقع وتتكيف معه وتحاول استثماره قدر الامكان.

ان احد الاسباب القوية للتطبيع هو ضعف القيادة الفلسطينية وعدم قدرتها على تجنيد الدول العربية لصالح معركتها مع الاحتلال واستمراراها في التعامل مع دولة الاحتلال كدولة قائمة لها حق الحياة وحق الامن ورفضت المس بها, بل وذهبت بعيدا حينما عملت على اعتقال مجموعات المقاومة والتصدي لاي محاولات لتصعيد المقاومة ضد الاحتلال.

ان هذا الضعف والهوان الذي نخر في عظام السلطة الفلسطينية شجع عددا من الدول العربية على الخروج من "حيائها" والاندفاع نحو هذه الجريمة المنكرة في تشريع دولة قامت على انقاض جماجم وجثث الفلسطينيين.

(4) السعودية.. المفاجأة الكبيرة

اخر ما كنا نتوقعه هو أن تتحرك المملكة العربية السعودية نحو التطبيع وهي التي تمثل رمزية العام الاسلامي وتحتضن اطهر بقعة في الارض ويحج اليها ملايين المسلمين في كل عام.

ما الذي تستقيده دولة غنية ومستقرة وغير مهددة أمنيا مثل المملكة العربية السعودية من تطبيع علاقتها مع دولة الاحتلال, وما هي المكاسب التي ستجنيها وأي خير سيعود عليها من علاقة مع دولة لا تعرف الا الشر والظلم والعدوان ومحاربة الاسلام دينا وقيما.

لقد أصابنا الحزن والغضب الشديد ونحن نرى الطائرات الصهيونية وهي تمر في اجواء السعودية, والفرق الرياضية وهي تشارك في مسابقات داخل المملكة , واخيرا مشاركة وفد اسرائيلي رسمي في مؤتمر اليونسكو.

ان الحديث الاسرائيلي الرسمي المتكرر عن رغبة جامحة في التطبيع مع الرياض ,وكذلك تباهي الادارة الامريكية انها تلعب دورا كبيرا في انجاح عملية التطبيع, فضلا عن تصريحات خجولة من المسئولين السعوديين , كلها تشير الى ان جدار الممانعة قد سقط, وان المشكلة تكمن في الشروط!!

أولى خطوات السعودية شبه الرسمية نحو التطبيع هو تعيين سفير لها غير مقيم في الاراضي الفلسطينية, والذي بدأ مشاوراته مع عدد من قيادات السلطة حول كيفية "ادارة " هذا الملف وليس في كيفية مواجهته.

السلطة لا تريد -ولا تستطيع- ان تقف في مواجهة المملكة العربية السعودية وتعارض موقفها وتوجهها نحو التطبيع, وهي تدرك ان ثقل السعودية السياسي في المنطقة ليس هينا ويمكن ان يجر وراءه عجلات دول أخرى تنتظر هذه اللحظة.

حتى هذه اللحظة لم تتجرأ السلطة ان تقول للسعودية (لا) , وفضلت ان تصمت وان تجري مفاوضات سرية مع المسئولين السعوديين في كيفية الاستفادة من التطبيع وتحسين موقفها.

السعودية, ومن اجل ان تسوق لنفسها جيدا في مسألة التطبيع, ارادت للفلسطينيين ان يكونوا ضمن هذا الحراك حتى تقنع دول العالم العربي والاسلامي ان التطبيع لم يكن من اجل مصالحها الخاصة , رغم ادراكها الجيد أنها لن تحصل على شيء ذي بال من الحكومة اليمينية المتطرفة في اسرائيل.

ان اسرائيل لن تقبل بالمبادرة العربية, ولن تعطي أي التزام بوقف الاستيطان او منع اقتحام المسجد الاقصى, وحتى لو اعطت فإنها لن تلتزم بذلك.

لا اعرف كيف يمكن ان تقع دول عربية ضحية أوهام تسوقها الادارة الامريكية عن السلام او عن ثمار التطبيع مع الاحتلال, وكيف أن يمكن أن تصدق وعودا ثبت كذبها على مر السنين السابقة.

هناك تقييم لبعض قيادات السلطة الفلسطينية هو أنه لن يتم التوصل إلى تطبيع بين المملكة العربية السعودية واسرائيل قبل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ويقولون ان السعودية ليست مستعجلة وتعمل على (نار هادئة), وتريد ان تستغل حاجة الامريكان للتطبيع بأقصى درجة ممكنة , لذلك طرحت كثيرا من الشروط التي تعتقد انه ليس من السهل قبولها من تل ابيب او واشنطن.

الرئيس عباس لديه قناعة مطلقة بأنه يعيش في منطقة تغص بالتناقضات, وان عددا من دول المنطقة تدفع به للسير مع المطبعين, وبعضها الاخر قلق من تمدد دولة الاحتلال, والبعض الاخر يقف صامتا محتارا.

السلطة الفلسطينية ستخرج من كل دورة التطبيع بخفي حنين ولن تحصد الا المرارة والفشل, وهي تضيف الى رصيدها من الكثير من الاخطاء السياسية والوطنية.

هي ستكون أكبر الخاسرين وأكبر المغفلين.

أن السعودية التي تتبنى مبادرة عام 2002 تقوم على اساس حل الدولتين ترى انها ليست نهائية وربما هي أساس للتفاوض وبالتالي قد يجري عليه الكثير من التغيرات.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo