أصداء دولية لأزمة إسرائيل القضائية

المظاهرات في "إسرائيل"
المظاهرات في "إسرائيل"

فضلا عن تداعياتها السلبية الموجعة على الداخل الإسرائيلى الملتهب، تتنوع الانعكاسات الخطيرة للتعديلات القضائية، التى تتبناها حكومة نتنياهو، على علاقات تل أبيب الشائكة مع محيطيها الإقليمى والدولى.

فمن منظور استراتيجى، أعربت دوائر أمنية واستخباراتية إسرائيلية عن بالغ قلقها على كفاءة وجهوزية جيش الدفاع لتنفيذ مهماته العادية والطارئة. ولفتت إلى أن أعداء إسرائيل، مثل إيران وحزب الله، يتابعان من كثب، تذمر قوات الاحتياط الإسرائيلية، وما يستتبعه من تأثيرات على وحدات الجيش المختلفة. حيث يعتبران الأزمة الراهنة نقطة ضعف تاريخية، تشكل فرصة ذهبية لتغيير الوضع الاستراتيجى فى المنطقة لمصلحتهما. كما يعتقدان أن الركائز الأربع للردع الإسرائيلى، والمتمثلة فى: قوة جيش الدفاع، الدعم الأمريكى، الاقتصاد الناهض والتماسك الداخلى، قد أصابها الوهن.

اقرأ أيضاً: يؤرق "نتنياهو" ويحول دون انجاز اتفاق تطبيع مع الرياض

إلى جانب شعارات «حماية الديمقراطية من استبداد الأكثرية»، والحيلولة دون تحول إسرائيل إلى «دولة على حافة الديكتاتورية»، يبرز الخوف من أن يفضى إضعاف رقابة القضاء على السلطتين التنفيذية والتشريعية، إلى إمعان الحكومات اليمينية المتطرفة، صاحبة الأغلبيات البرلمانية الهشة، فى توريط المؤسسة العسكرية بحروب متواصلة. لما كان نتنياهو يتوسل من تمرير التغييرات القضائية، منجاة من ملاحقته بجريرة الفساد، لا يستبعد مراقبون أن تدفعه أكبر موجة احتجاج جماهيرى فى تاريخ إسرائيل، نحو الهروب إلى الأمام، عبر تصدير مشاكله للخارج. كتوسيع العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، أسوة بما جرى عامى 2012، و 2014، وما زال يحدث حاليا فى غزة والضفة. أو افتعال مواجهة مع حزب الله اللبنانى، أو توجيه ضربة إجهاضية لمنشآت إيران النووية.

وبمقاربة قانونية، يمكن إرجاع المعارضة الواسعة فى صفوف المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لخطة التعديلات القضائية، إلى الخشية من إهدار «الدرع الواقية»، الذى تمثله المحكمة العليا فى وجه الملاحقات الدولية للعسكريين الإسرائيليين، المتورطين بارتكاب «جريمتى الحرب، وضد الإنسانية» بحق الفلسطينيين.

ففى عام 2021، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارها بإدراج الأراضى الفلسطينية ضمن اختصاصها القضائى. ما يمهد لفتح تحقيقات بشأن ارتكاب جرائم حرب محتملة فيها؛ من خلال تسمية «المناطق التى احتلتها إسرائيل عام 1967 مثل قطاع غزة، الضفة الغربية، والقدس الشرقية». ومن شأن هكذا قرار، إعطاء الضوء الأخضر لتحرك المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، التى أعلنت عام 2019، عزمها فتح تحقيق بشأن «جرائم حرب» ارتكبت فى الأراضى الفلسطينية عام 2014. فلقد بات بمقدورها ذلك، استجابة لطلب السلطة الفلسطينية، التى انضمت فى العام 2015 إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما يخولها دعوة مدعيها العام للتحقيق فى جرائم ارتكبت على أراضيها.

أخيرا، ذكرت صحيفة «يسرائيل هيوم» أن الاتحاد الأوروبى، بدأ منذ عام 2018، وحتى نوفمبر 2019، تخصيص 250 ألف يورو، لتمويل مشروع ملاحقة قضائية للعسكريين الإسرائيليين المتورطين فى انتهاك حقوق الإنسان بالأراضى الفلسطينية المحتلة. وذلك ضمن برنامج ملاحقة، يسمى «ثقافة الإفلات من العقاب فى صفوف قوات الأمن الإسرائيلية». وقد جاء التحرك الأوروبى استجابة لمطلب منظمات حقوقية إسرائيلية، ترفض عزوف سلطات الاحتلال عن إجراء تحقيقات جادة فى انتهاكات جنودها بحق الفلسطينيين. حيث لا يتورع قضاؤها العسكرى عن تبرئة العسكريين المشتبه بارتكابهم انتهاكات أثناء اقتحام منازل الفلسطينيين.

يرى قضاة إسرائيليون فى المحكمة العليا رصيدا قانونيا استراتيجيا لجيشهم، ليس فقط فى وجه الدول الغربية، التى تأبى الاعتراف بسلطة الاحتلال فى الأراضى المحتلة عام 1967، وإنما أيضا فى مواجهة المحكمة الجنائية الدولية ومحاكم عالمية أخرى، تتلقى دعاوى قضائية ضد إسرائيليين بشبهة ارتكابهم جرائم حرب فى تلك الأراضى. حيث يرفض القضاء الدولى، النظر فى قضايا وقعت بدولة، يتولى قضاؤها المحلى التحقيق فيها ومحاكمة مقترفيها. فمن بين الأسس المركزية، التى يستند إليها القضاء الدولى والمحكمة الجنائية الدولية، مبدأ «أساس التتام»، الذى ينص على أن تكون الصلاحية القضائية الدولية متممة لنظيرتها الوطنية. ما يعنى أنه طالما اضطلعت الدولة بالتحقيق، ومحاكمة المتهمين، فى إطار عملية قضائية جديرة ومستقلة، فلا ولاية عليها من لدن المحكمة الدولية.

فى المقابل، يرى الفلسطينيون أن المحاكم الإسرائيلية، وفى صدارتها المحكمة العليا، توفر غطاء قانونيا لجرائم الجيش الإسرائيلى. حيث تستنكف عن محاكمة الإسرائيليين الضالعين فى جرائم الحرب بالأراضى المحتلة. وحينما يغدو القضاء تابعا للسلطة التنفيذية، ينبغى التشكيك فى نزاهته والمطالبة بمحاكمات دولية عادلة. ذلك أن التعديلات القضائية المقترحة ستنال من الصورة، التى تروجها إسرائيل لنفسها كدولة ديمقراطية، ما سيقوض ثقة العالم فى الاستقلالية المزعومة لقضائها. الأمر، الذى يتيح للفلسطينيين تقديم شكاوى للمحكمة الجنائية الدولية ضد منفذى الهجمات ومصدرى الأوامر، بتهم ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية. وهو ما سيفاقم ظاهرة رفض الخدمة داخل الجيش والمؤسسات الأمنية فى إسرائيل، مخافة الملاحقة القضائية الدولية.

اقرأ أيضاً: صحيفة روسية: إسرائيل على شفا حرب أهلية

وبحسابات اقتصادية، يحذر مستثمرون ومحللون من أن تراجع التصنيف الائتمانى للاقتصاد الإسرائيلى، وانكماش حجم الاستثمارات الأجنبية، وخفوت أداء قطاع التكنولوجيا، حالة استمرار الاضطرابات الناجمة عن التعديلات القضائية. فلقد خفضت وكالة «موديز»، التصنيف الائتمانى السيادى لإسرائيل، بينما توقعت وكالة «ستاندرد أند بورز»، أن تقلص الاحتجاجات غير المسبوقة معدلات النمو الاقتصادى للعام الحالى. وحذرت من إمكانية تخفيض تصنيفها لإسرائيل، إذا تصاعدت المخاطر السياسية الإقليمية أو المحلية بصورة حادة؛ بما يتمخض عن إضعاف المقاييس الاقتصادية والمالية، ومقاييس ميزان المدفوعات. ويؤكد الخبراء أن التعديلات القضائية يمكن أن تؤدى إلى تدهور مؤسساتى كبير، وربما تؤثر على تدفقات رأس المال المخصصة لبعض المجالات، لاسيما قطاع التكنولوجيا.

على وقع تنامى قلق المستثمرين الأجانب، ارتفعت علاوة المخاطرة فى إسرائيل، كما انخفضت قيمة الشيكل 10% مقابل الدولار واليورو. وشهدت مؤشرات البورصة تراجعا حادا تراوح بين 2.6 % و4.2%. وحذرت مؤسسة «موديز» من تآكل إمكانية التنبؤ بأفعال المؤسسات التنفيذية والتشريعية، وزيادة الرغبة فى تعريض الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى لمخاطر جمة. وخفضت الوكالة نظرتها المستقبلية لاقتصاد إسرائيل من إيجابى إلى مستقر، واعتبرت الأمر مقلقا. وبينما يشكل قطاع التكنولوجيا الفائقة، المحرك الرئيس للنمو الاقتصادى، انخفضت استثمارات رأس مال المخاطر وشركات التكنولوجيا الفائقة الجديدة، بشكل ملحوظ إلى 3.7 مليار دولار فى النصف الأول من العام الحالى، مسجلا أدنى رقم منذ عام 2019. ورصدت «موديز» مؤشرات على انفصال إسرائيل عن الاتجاهات العالمية فى صناعة التكنولوجيا. ووفقا لمسح حديث أجرته هيئة الابتكار الإسرائيلية، هبط قطاع التكنولوجيا الفائقة، إلى أدنى مستوى له فى أربع سنوات. إذ جنحت أكثر من 80% من الشركات الناشئة، لتسجيل نفسها خارج البلاد منذ مطلع العام، جراء أجواء عدم اليقين، التى تمخضت عنها الإصلاحات القضائية. كما انحسر الاستثمار فى قطاع التكنولوجيا بنحو 65%. وبينما أكد خبراء أن التعديلات القضائية تهدد بدفع الاقتصاد إلى مسار نمو منخفض بصورة دائمة، صنف بنك «مورجان ستانلى» الاستثمارى، إسرائيل، حاليا، على أنها فى «وضع غير مرغوب فيه». كما أكد بنك «سيتى» أن «البيئة الاستثمارية فى إسرائيل باتت أخطر وأكثر تعقيدا»، وتوقع تبخر مائة مليار شيكل (27 مليار دولار) سنويا من حصيلة النمو الاقتصادى.

أما سياسيا، فلقد فاقمت الإصلاحات القضائية من الخلافات بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن. حيث تفاعلت التكهنات بشأن إمكانية عقد لقاء يجمعهما الشهر المقبل، فى البيت الأبيض، الذى لم يلجه نتنياهو، منذ عودته لرئاسة الحكومة نهاية عام 2022. وبعدما عبرت الرئاسة الأمريكية عن أسفها لإقرار الكنيست القانون الأول فى خطة الحكومة اليمينية المتشددة حول التشريعات الخاصة بالتعديلات القضائية، والمتعلق بـ«عدم المعقولية»، نادت أصوات فى الكونجرس بمعاقبة إسرائيل، عبر تقليص، أو تجميد المساعدات الأمريكية لها، والتى تتخطى ثلاثة مليارات دولار سنويا. بيد أن وزارة الخارجية الأمريكية حسمت الجدل، باستبعادها أى إجراءات من هذا القبيل، مراعاة لالتزام واشنطن الاستراتيجى والتاريخى، حيال أمن الدولة العبرية وبقائها.

المصدر : الشروق المصرية
atyaf logo