"إسرائيل" ومعضلة تعزيز السلطة الفلسطينية

محمود عباس ومحمد اشتيه
محمود عباس ومحمد اشتيه

السلطة الفلسطينية تواجهها ثلاث مركبات صعبة , أولها علاقتها بشعبها الفلسطيني والذي تدل كثير من الاستطلاعات على انه فقد الثقة بها ولم يعد يرى فيها املا, سواء لتحسين حالته الاقتصادية او لتعزيز مشروعه الوطني. والمركب الثاني هو الاحتلال الذي يقف امام خيارين , اما انهاء وجود السلطة لقطع الطريق على أي امل سياسي للفلسطينيين او الابقاء عليها مع الكثير من القيود التي تجعل منها سلطة شكلية او وظيفية من اجل خدمة اهدافه في الاراضي المحتلة . والمركب الثالث وهو قدرة السلطة نفسها على اثبات وجودها وفرض ارادتها والقيام بواجباتها تجاه الفلسطينيين.

يمكن القول ان السلطة تعيش اليوم أسوأ أوضاعها منذ عقود, فالشعب الفلسطيني يرى انه لا بد من اجراءات اصلاحات جذرية, والاحتلال يري فرض مزيد من العقوبات والاشتراطات التي تفرغ السلطة من مضمونها.

إن شرعية السلطة الفلسطينية بقيادة أبي مازن هي في أدنى مستوياتها في الرأي العام الفلسطيني، حيث يُنظر إلى تمسكها بالعمل ضد المقاومة والتعاون الأمني ​​المستمر على أنهما غير مجديين ولا يخدمان أو يعززان المصلحة الفلسطينية، ويشير استطلاع أجراه مركز دراسات إلى أن غالبية الجمهور الفلسطيني تعتقد أن السلطة الفلسطينية عبء على الشعب الفلسطيني (63٪ مقابل 33٪)، ويعرب عن عدم رضاه عن أداء أبي مازن (80٪ مقابل 17٪) ، من ناحية أخرى، لم يتم تحديد أو ملاحظة قيام أي منظمة شعبية أو سياسية للإطاحة به فعليًا.

هناك اهتمام فلسطيني وإسرائيلي ودولي بواقع السلطة ومصيرها, والكل يسعى من جهته الى الامساك بزمام السلطة وقودها نحو ما يتوافق مع رؤاه ومصالحه, والسلطة في ذلك كله تتعرض الى حالة من الشد والجذب من كافة الاطراف, ولا تملك الكثير من الارادة والقوة والخيارات لفرض اجندتها في ظل الضعف الشديد الذي يعتريها.

إسرائيل بين مسارين

كان إنشاء السلطة الفلسطينية نتيجة لاتفاقات أوسلو، يهدف إلى ضمان الفصل السياسي بين دولة الاحتلال والفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية من أجل منع احتمالية الوصول الى ما كانت تخشاه إسرائيل "الدولة ثنائية القومية"، وتحسين الواقع الأمني، والتخلص من عبء إدارة الحياة اليومية للسكان وتحسين موقع “إسرائيل” الإقليمي والدولي.

في بدايات سنوات انشاء السلطة الفلسطينية, كانت العلاقات قائمة بين الطرفين تسير بشكل جيد نسبيا, رغم الكثير من المحطات الخطرة التي مرت بها هذه العلاقة.

اقرأ/ي أيضاً: حماس وسوريا.. حديث الغدر وعودة العلاقات

بعد صعود اليمين الى سدة الحكم تغيرت السياسات الإسرائيلية بشكل كبير, اذ اخذت منحى عدم الاعتراف بالسلطة او تقديم الدعم لها, بل النظر اليها على انها كيان معاد وتحد سياسي كبير أمام دولة الاحتلال.

بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات عام 2004 بدأ الضعف ينخر في السلطة الفلسطينية بشكل واضح بعد ان تعرضت الى هزات عنيفة, وبدأت إسرائيل في سلسلة من الاعمال السياسية والميدانية التي اوصلت السلطة الى حالة غير مسبوقة من الضعف والترهل.

سعت حكومات اليمين المتعاقبة, وضمن خطة معتمدة, الى اضعاف السلطة من خلال سلسلة طويلة من القرارات والاجراءات, بدأتها بالتوسع الاستيطاني والسيطرة على مزيد من الاراضي, ثم اجتياح المناطق التي تخضع للسلطة الفلسطينية, مما كسر هيبتها واضعف مكانتها امام الشعب الفلسطيني, ثم بدأت بإجراءات التضييق عليها من خلال تقييد حركة مسئوليها والسيطرة على مقدراتها المالية والتحكم بها.

وكانت الحكومة التي يرأسها نتانياهو، وهي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، قد أعلنت سلسلة عقوبات ضد رئيس السلطة الفلسطينية بسبب توجهه نحو رفع قضايا في محكمة الجنايات الدولية ضد اسرائيل. ومن بين هذه العقوبات وقف نقل الاموال اليها واقتطاع جزء منها لصالح تعويضات لاسرائيلين.

وتقتطع إسرائيل شهريا نحو 70 مليون دولار، من أموال المقاصة، وهي الضرائب التي تجبيها إسرائيل في المعابر عن الواردات الفلسطينية نيابة عن السلطة مقابلة عمولة, الامر الذي جعل السلطة في كثير من الاوقات عاجزة عن دفع رواتب موظفيها.

من هنا بدأ الطلاق الخفي بين الطرفين وانقطعت الاتصالات ورفض نتنياهو او اعضاء حكومته الالتقاء بالسلطة, بل قصروا الامر على المستويات الامنية, بل ان نتنياهو ذهب ابعد من ذلك حينما وصم السلطة بأنها تدعم "الارهاب" ولا تقوم بدورها في ملاحقة منفذ العمليات وانها تدعم اسر الشهداء والاسرى الذين تنظر اليهم اسرائيل على انهم "ارهابيين".

في كثير من الاحيان طرحت قيادات فلسطينية امام الرئيس ابو مازن الخروج عن السياسة الراهنة ووقف التنسيق الامني وتجميد الاعتراف بدولة الاحتلال ردا على سياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني, لكن ابو مازن رفض الاصغاء لمثل هذه النداءات او التعاطي معها, وحرص الا ينجر الى مثل هذه المربعات التي تضعه تحت طائلة الاستهداف الاسرائيلية وفضل ان ينفس غضب الفلسطينيين من خلال اجراءات شكلية.

حالة الضعف والتدهور في وضع السلطة بات مقلقا لاكثر من طرف, بدءا بالمؤسسة الامنية الإسرائيلية ومرورا بالأنظمة العربية التي تربطها علاقات بالسلطة وانتهاء بالمواقف الدولية, خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة.

المستوى الامني الإسرائيلي يرى في السلطة عاملا مهما في الحفاظ على الامن ومحاربة المجموعات المسلحة, وكذلك في اقناع المجتمع الدولي بوجود سلطة فلسطينية تنفي عن اسرائيل صفة الدولة المحتلة. كما ان المؤسسة الامنية باتت تخشى من تصاعد نفوذ حركة حماس في الضفة الغربية وانها تشكل بديلا للسلطة, خاصة بعد ان فازت حركة حماس بانتخابات اكبر جامعتين في الضفة الغربية , وكذلك في عدد من النقابات والبلديات.

من هنا تعالت الكثير من الاصوات داخل المؤسسة الامنية الاسرائيلية بضرورة تعزيز وتقوية السلطة الفلسطينية ومنعها من الانهيار. وقد ثار جدل كبير بين المؤسسة الامنية والمستوى السياسي, وبدا ان هناك خلافا عميقا بين الاتجاهين, لدرجة انه صدرت تصريحات من بعض قادة الاجهزة الامنية التي حذرت من ان انهيار السلطة سيعني كارثة كبيرة لدولة الاحتلال.

المستوى الامني الاسرائيلي يرى ان كثرة الضغط على السلطة وفرض عقوبات عليها سيقود الى مزيد من الضعف وتعميق الفوضى في أراضي السلطة ، وربما يقود الى تعزيز قوة حماس في الضفة الغربية , وهو ما يشكل تحديا كبيرا لدولة الاحتلال التي تسعى الى اجتثاث قوة حماس في الضفة ومنع نشاطها.

وبالرغم من أن المؤسسة الامنية الإسرائيلية ترى بالرئيس الفلسطيني أنه "خصم أيديولوجي لإسرائيل، لانه يخوض النضال ضدها في الحلبة السياسية الدولية", لكنها موقنة ومطمئنة ان محمود عباس لا يؤمن بالعمل المسلح ولا بالمقاومة, لذا ترى فرصة كبيرة في دعمه واسناده في مقابل حركة حماس.

اقرأ/ي أيضاً: "زوايا" تكشف كواليس زيارة أبو مرزوق لغزة.. هل ينتهي الانقسام؟

الخبراء الامنيون في دولة الاحتلال يرون أن تعزيز السلطة هو نوع من “الهندسة السياسية“، التي تضمن لإسرائيل عدم نشوب حالة فوضى في الاراضي الفلسطينية خاصة في ظل الخلافات العميقة داخل حركة فتح حول من يخلف ابو مازن بعد رحيله.

مؤخرا وبعد ضغوط كثيرة , خاصة من الاطراف الدولية , بدأ المستوى السياسي، بقيادة “نتنياهو” مقتنعا بضرورة وجود سلطة فلسطينية قوية، تعمل على تلبية احتياجات السكان ، والعمل على استئصال“الإرهاب“، وتعزيز التنسيق الأمني ​. ونقلت القنوات العبرية عن نتنياهو قوله: "نستعد لليوم التالي لأبو مازن. نحن بحاجة للسلطة الفلسطينية ولا يمكننا السماح لها بالانهيار, كما أننا لا نريدها أن تنهار, وقال "نحن مستعدون لمساعدتها ماليا. لدينا مصلحة في استمرار عمل السلطة وحيث تنجح في العمل فهي تقوم بالمهمة لنا وليس لدينا مصلحة في سقوطها". لكن نتنياهو مصر على ان تعزيز السلطة لا يعني بحال ان تنشط سياسيا أو ان تستأنف المفاوضات السياسية معها , لان ائتلافه اليميني يرفض بشكل حاسم اقامة أي علاقات سياسية مع السلطة , وقد صرح نتنياهو أن "على إسرائيل سد الطريق أمام طموحِ الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة لهم".

هناك رأي قوي يقول بان استقرار العلاقة مع السلطة الفلسطينية يفتح الباب امام اسرائيل كي توسع من علاقاتها العربية والدولية, كما يمكن من خلق تحالفات امنية وعسكرية في منطقة الشرق الاوسط, ويرون في نفس الوقت ان تأزم العلاقة مع السلطة يمنع اسرائيل من الحصول على الكثير من المنافع السياسية والامنية.

يطرح سؤال مهم: كيف يمكن ان تتعزز العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في ظل غياب الافق السياسي الذي تعول عليه السلطة في تثبيت وجودها بين ابناء الشعب الفلسطيني, في الوقت الذي تحارب إسرائيل بكل شراسة من اجل منع استئناف المفاوضات او التوصل لتسوية سياسية؟

هذه المعضلة حاولت اسرائيل التغلب عليها من خلال التحايل على المجتمع الدولي واقناعه بضرورة تقديم تسهيلات اقتصادية واسعة للسلطة وتخفيف المعاناة الانسانية في الاراضي الفلسطينية.

يرى الباحث الاسرائيلي ميليشتاين أنه يتعين على متّخذي القرار في إسرائيل مواجهة خلاصتين استراتيجيتين: الأولى هي أن التركيز على خطوات رمزية، من ملاحقة الأعلام الفلسطينية، مروراً بإقامة بؤر يجري إخلاؤها بسرعة في الضفة الغربية، وصولاً إلى زيارات الحرم القدسي، يمنع صوغ استراتيجيا عميقة وبعيدة المدى في الموضوع الفلسطيني، ويمكن أن يحوّل الانتباه والجهد إلى مسائل وجودية أخرى، في طليعتها النووي الإيراني.

الخلاصة الثانية والأكثر أهمية، هي أنه على الرغم من الموقف الحاد الذي تقفه السلطة الفلسطينية حيال إسرائيل، فإنها تبقى الأقل سوءاً، لأن عدم وجودها سيضع إسرائيل أمام بدائل أكثر سوءاً بكثير، بدءاً من سيطرة “حماس” على الضفة، مروراً بواقع الدولة الواحدة الذي يهّدد صورة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية.

في نهاية المطاف, فان توجه اسرائيل لتعزيز دور السلطة الفلسطينية يأتي في سياق مصالحها الخاصة وليس خدمة للشعب الفلسطيني, وهو توجه أمني محض ولا علاقة له بالواقع السياسي.

السلطة الفلسطينية تحتاج الى كثير من اشكال ومضامين الدعم , لكنها ان لم تدعم من قبل شعبها أولا واخيرا فانه لا يمكنها الصمود امام الرياح السياسية التي تعصف بالمنطقة.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo