السبب الحقيقى لاحتجاجات إسرائيل

الاحتجاجات في "إسرائيل"
الاحتجاجات في "إسرائيل"

عاد العديد من الإسرائيليين مرة أخرى إلى الاحتجاجات الجماهيرية فى الشوارع، بعد نجاح حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يوم الإثنين الماضى، فى تمرير جزء صغير من مشروع قانون الإصلاح القضائى الأوسع، الذى كان قد تم طرحه فى وقت سابق من هذا العام.

ولكن أى تحليل رصين لهذا الصراع الذى لم يسبق له مثيل فى تل أبيب الآن يؤدى إلى استنتاج واحد، وهو أنه لا علاقة لرد الفعل الشديد هذا بالمخاوف الجوهرية المتعلقة بفصل السلطات، ولكنه يرجع إلى كراهية اليسار لنتنياهو والمخاوف العميقة من الاتجاه القومى والدينى الذى تتجه إليه إسرائيل الآن.

ولطالما تبنّت إسرائيل نموذج الحكم البريطانى، الذى لا يوجد فيه دستور مكتوب، ويحظى فيه البرلمان بمكانة خاصة، ويُعد القضاء تابعًا له، ولكن الأمور بدأت تتغير فى أوائل التسعينيات عندما أعلن الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية أهارون باراك ما يسمى «الثورة الدستورية».

وفى غياب أى أساس قانونى لفعل ذلك، جلب باراك إلى المحكمة العليا الإسرائيلية سلطات لا تمتلكها أى محكمة قضائية أخرى فى العالم، وتشمل هذه الصلاحيات، من بين أشياء أخرى، سلطة الاستماع إلى أى قضية، بغض النظر عن مدى شفافيتها السياسية، وبغض النظر عن المكانة القانونية للمدعى الذى رفع الدعوى، فى أى وقت ولأى سبب.

والقدرة على إلغاء أى قانون أو سياسة أو حتى تعيين وزارى لأى سبب، بدءًا من المراجعات القضائية المبنية على «القوانين الأساسية» شبه الدستورية الثلاثة عشر لإسرائيل إلى الإلغاء القضائى بناءً على «اللامعقولية»، ويمكن لأى شخص مطلع على المقارنات الدستورية اكتشاف المشكلات الصارخة هنا.

ولذا فقد جعل حزب «الليكود» بزعامة نتنياهو والأحزاب اليمينية المتحالفة معه من إصلاح المحكمة العليا الإسرائيلية التى يهيمن عليها اليساريون بندًا رئيسيًّا فى الحملة الانتخابية التى سبقت الانتخابات التى أُجريت فى نوفمبر الماضى، والتى أسفرت عن وجود ائتلاف محافظ يحظى بالأغلبية ولديه 64 مقعدًا (من أصل 120) فى البرلمان الإسرائيلى (الكنيست).

اقرأ أيضاً: "إسرائيل" تتحضر لسيناريوهات ما بعد الرئيس "عباس"

وقدم الائتلاف مجموعة واسعة من الإجراءات الإصلاحية، من تعديل تشكيل لجنة الاختيار القضائى إلى إضافة بند «فقرة التجاوز» المتنازع عليه بشدة فى الكنيست لتقليص صلاحيات القضاء الإسرائيلى، وقد أعلنت عن تأييدى لتلك الإصلاحات الأوسع فى ذلك الوقت.

ومع ذلك، فإنه فى ظل الانهيار العلمانى اليسارى الذى أدى إلى إغلاق عدد لا يُحصى من الطرق السريعة من قِبَل المتظاهرين، وتهديد جنود الاحتياط بالجيش الإسرائيلى بعدم الحضور إلى الخدمة، وتدفق مليارات الدولارات من الاستثمار إلى خارج البلاد، وإغلاق المطار الدولى الوحيد فى البلاد لفترة وجيزة بسبب الإضراب، فقد تراجع نتنياهو فى أواخر مارس الماضى.

ولكن فى محاولة لحفظ ماء الوجه وإثبات أنه يمكن للائتلاف البرلمانى المحافظ الذى يمثل دولة محافظة بشكل متزايد أن يمرر شيئًا لتجريد القضاء من صلاحياته، أقرت الحكومة يوم الاثنين الماضى مشروع قانون يقنن أن المحكمة العليا فى إسرائيل لا يمكنها إلغاء قانون أو سياسة أو تعيين وزارى على أسس غير موضوعية، وهى أن يكون هذا القانون أو السياسة أو التعيين قد تم بطريقة «غير معقولة».

ويُعد قانون «المعقولية» هذا جزءًا صغيرًا من حزمة الإصلاحات الأوسع التى تم طرحها فى وقت سابق من هذا العام، ولكن الفكرة القائلة إن المحكمة يمكن أن تلغى أى قانون أو إجراء حكومى لأن هذا القانون أو الإجراء «غير معقول» هى ببساطة غير مفهومة.

وبشكل مثير للدهشة، أكدت المحكمة العليا الإسرائيلية أنها ستنظر فى الالتماسات القانونية ضد قانون «المعقولية» هذا، الأمر الذى سيقودنا إلى وضع هزلى تفصل فيه المحكمة فى تشريعاتها الخاصة فى مجتمع لا يتضمن دستورًا، وهو ما يُعد جنونًا واضحًا.

ومما يجعل الوضع مأساويًّا هو أن المحكمة العليا الإسرائيلية ليست الكيان الوحيد الذى ينهار بسبب قانون «المعقولية» الذى مررته الحكومة، فلا يزال جنود الاحتياط يهددون بعدم الذهاب إلى الخدمة، ولا يزال رأس المال يفر من قطاع التكنولوجيا الفائقة المزدهر، ولا يزال الفوضويون يغلقون الطرق السريعة، ولا يزال المتظاهرون يحاولون منع المشرعين من دخول الكنيست، ولذا فالأمر يبدو كما لو أن شيئًا لم يتغير.

والتفسير الواضح هو أن الاستياء القومى لليسار الإسرائيلى وفزع اليسار العالمى ليس لهما علاقة على الإطلاق بالإصلاحات القانونية، فقد أعرب أعضاء ليبراليون بارزون فى الكنيست، مثل يائير لابيد، فى السنوات السابقة، عن اهتمامهم باستعادة السلطات التشريعية التى تمت سرقتها دون وجه حق من قِبَل المحكمة العليا الإسرائيلية.

ولكن هناك سببان لاستمرار الاحتجاجات العنيفة فى إسرائيل، السبب الأول والأكثر مباشرة هو أن اليسار الإسرائيلى والعالمى يحتقر نتنياهو بشكل حقيقى، إذ ينظرون إلى رئيس الوزراء الذى حكم أطول فترة فى تاريخ إسرائيل على أنه ديكتاتور فاسد ومتعطش للسلطة.

اقرأ أيضاً: خبير لـ "زوايا": الدولة العميقة هي من تقود التظاهرات في "إسرائيل"

والسبب الثانى، والأكثر عمقًا، هو أن المحتجين ينظرون (بشكل صحيح) للإصلاحات على أنها بمثابة وكيل لحرب ثقافية أوسع تُشن الآن بين رؤيتين متناقضتين لإسرائيل: اليهود الأشكناز الأكثر علمانية واشتراكية، الذين غالبًا ما يكونون فى الطبقة الحاكمة التى تسكن تل أبيب وتتجسد فى المحكمة العليا الليبرالية، وجناح اليهود السفارديم والمزراحى الأكثر تدينًا وقومية، الذين يجسدهم الائتلاف الحاكم المحافظ بزعامة نتنياهو فى الكنيست.

فهؤلاء هم رجال ونساء نشأوا فى إسرائيل باعتبارها دولة اشتراكية يهيمن عليها حزب العمل، وكانت تطلعات القومية اليهودية خاضعة لمطالب الليبرالية العالمية، ولكنهم باتوا الآن مرعوبين من فقدان هذا المفهوم المحدد لإسرائيل فى سجلات التاريخ.

إلا أن الأمر الذى لا يدركونه هو أنهم يتشوقون عبثًا لشىء لم يعد موجودًا، فإسرائيل الجديدة والحديثة تبدو أكثر قومية، وأكثر تدينًا، وتقليدية، وهذا بالتأكيد لن يتغير فى أى وقت قريب.

المصدر : مجلة "نيوزويك" الأمريكية

مواضيع ذات صلة

atyaf logo