غسان كنفاني العائد.. التحرير ليس مستحيلاً

غسان كنفاني
غسان كنفاني

أؤمن بأن النسيان فضيلة. الثمانون تساعدني كي أتغاضى عن ذاكرتي، أن أكون مُطمئناً إلى أن الماضي مضى حقاً. كان عليَّ أن أفرح وأحتفل، غير أنني أرى الأمل أبعد من السماء. ثم أنني مستسلمٌ لأوان المغادرة.

فجأة، أعود صبياً، أرشح طفولة واشتهاءً. إنها لمعجزة أن تكون فلسطين، ولا أحد سواها أبداً، تدُلّني على إصبعي وتأمرني بأن أشهره إلى فلسطين.

وفجأة، بعد خمسين عاماً، يعود إلينا غسان كنفاني، مُتوجاً بضوء لمساحات وجودنا، يضيءُ لنا مسارات وافرة العطاء. وها نحن هنا، نعود إلى شجاعة البدء. فكل يوم بداية. المستقبل يلدنا ونلده. فأهلاً يا صاحب الجراح والآلام، والانتصار لم يعد مستحيلاً.

اقرأ/ي أيضاً: استطلاع إسرائيلي: تشاؤم كبير حيال مستقبل وديموقراطية دولة الاحتلال

عرفنا غسان كنفاني ماضياً، ولكنه لم يمضِ. خمسون عاماً، كان فيها حاضراً، لمن يتنبه إلى أن فلسطين ولّادة. وأن القبضة تتوالد، وأنَ الدم بكر، وأن اليأس خيانة، والتخلي جريمة. لم يعد صحيحاً يا صديقنا غسان، أن الأبطال يموتون دون أن يسمعهم أحد، كما جاء في “رجال الشمس”. أعتذر منك. أنا أخالفك الرأي. لقد سمعناه وسمعناهم.

فلسطين منعت النسيان عن جيل يخضب أرضاً وشغفاً وأملاً. غريب أن الشهادة مؤلمة ولكنها لا تستدر البكاء، بل تُحرّض القبضات وتحفظ مفاتيح بوابات العودة، وتصوّب العقل والطلقة، لتصيب، ولا يؤلمها أن تُصاب.

لهذا، إني أصدّقك يا غسان: بلى، “عائد إلى حيفا”. عائد إلى جان دارك في مسقط رأسك. من هناك ارتحلت إلى المنافي: بلغت لبنان شاباً، سوريا بعد ذلك، الكويت على مرمى عمل، إلى الكويت، والقرع على الخزانات والموت على الطرقات الجريحة. ثم عودة إلى بيروت وانتساب إلى الثورة وانتصاب قلم وبندقية، ورسم أفق بعيد تصل إليه بعينيك.

سيرتُك لا تُكتب كما تُكتب الأسماء في بطاقات الهوية. أنت أفصحت عن انتمائك بطبيعية ولغة وأداء وصدق وعطاء. الصحافة كانت منصة عمل وأفق مُنال. 18 كتاباً، ليست من حبر بل من حصاد الآلام والآمال. مئات المقالات في الثقافة والسياسة وفي رسم معالم الطريق. وكان الطريق من العواصم العربية إلى فلسطين محفوفاً بالشرطة والمخابرات ولصوص العقائد واشتهاءات القادة. كتبتَ حريتك في أزمنة الحصار والنفاق و”الفتك الأخوي”. يا للعار!

كتبتَ في السياسة ولم تكن ضالاً ولا مُضللاً. من أين لك هذه الجرأة التي وضعت اسمك، بعد مغادرتك الغادرة، في مقام الأسطورة.

فمن ذا لا يعرف اليوم، بعد خمسين عاماً، غسان كنفاني؟ ثم، من ينكر أنك كنت عضواً في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”. وهذه الجبهة الباسلة، دخلت في امتحانات الإلغاء العربية، وفازت بحصة الأسر الراهن لقائدها أحمد سعدات، وهو أسر مؤبد، و”الجبهة” على قيد الحياة والنضال، وفي المقدمة جيل يتدفق أجيالاً. مصدر نضالها، ابتكار القوة من عدم، واصابة العدو المدجج بالارتجاج. “حي على القتال” كافية وحدها، لتحقيق الجدوى من الانتماء والارتماء في القبضة والطلقة و.. “أنا عائد إلى حيفا”.

أصحيح أن الابطال يموتون يا غسان دون أن يسمعهم أحد؟ صح. لا وقت لدى الأولاد والأحفاد الذين تعرفهم برغم غيابك؛ لا وقت لديهم للبكاء، بل لا يستطيعون البكاء. إنهم من عالم لا يُشبه هذا العالم المثخن بالفتن والعدوان والعنف والإجرام. الفلسطيني يُولد مرتين، أو مراراً. من أمه أولاً، ومن الرحم الفلسطيني دائماً.

لا أكتمك سراً. أننا نبكي بالسر على زهرة شباب وشابات فلسطين. البكاء نص وبلاغة القلب، والألم نص الحياة. لذلك، يا غسان، أنت لم تمت بعد. موتك واقف على منصة ترى من فوقها، أن فلسطين ستُغيّر لعنة المسيح: “كم من مرة أردتُ أن أجمع بنيك بين جناحيي، فلم تريدوا”. هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً. صح ما قاله وما لعنه. صح ما وصل إليه الخراب والتخريب الدولي أو الأممي إلى فلسطين، تاريخ أمتنا معيب. لدينا أساطير الانبعاث والمقاومة والقيامة، لذلك، لن يبقى طعم أرض البرتقال حزيناً.

تركت لنا واقعاً مؤنساً من جهة، وهمجياً من ناحية أخرى.. كيف لا، وأنت كنت شديد الاتصال بالواقع. مساحات حروفك وهوائَية كلماتك معبأة بالمحنة والامتحانات. أنت ابن العواصف والخبرة والمعاناة، الإبن الشرعي لمقاومة دَفعتَ ثمنها، غدراً بدمك.

أنت ابن جيل الجلجلة المتمادية، زمناً وواقعاً. عدّاد الخسارات لم يتوقف بعد. رواياتك احتضنت بشفافية الأدب وتقنية الرواية وصدق اللغة وتأجج الآلام وانحسار الآمال، وكانت رفوف مكتباتنا مثقلة ومغرية، لأن الألم صار طعمه كالعرق. إننا أبناء الجلجلة، ولا بد من قيامة. وها هي الضفة ترسم لنا الطريق، وتحرير فلسطين لم يعد مجرد لافتة، تماماً كما أردت: فعلاً وعملاً ويقيناً. ها هي الطلائع سخية الدماء. عنيدة المراس. شجاعة المواجهة. مقبرة الاحتلال.

اقرأ/ي أيضاً: "إسرائيل ثانية" في أوروبا.. الجزء الذي تخفيه "الصهيونية" في أوكرانيا

قيل مراراً: انتصار الأوهام مستحيل. صح.

الفلسطيني ليس وهماً. أهم ما عنده، أنه لم يعد يصدق أو يقنع بكذبة أن الطريق إلى فلسطين، تمر بالعواصم العربية. خلص. كذبة بلقاء.

هذا الفلسطيني هو سليل الأفق. تاريخنا مآسٍ. أبدعت في كتابتها، رواية ومقالة ومواقف.

كأنني الآن أسمع صوتك. أقرأ نصوصك. وأجد نفسي خارج مدار الأرض العربية الحمقى.

الفلسطيني يا غسان يتوالد. العربي غيَّر مكان إقامته. إنه يتأبط شراً. والعروبة ماتت مدنها. فارقتنا، في وداع بارد. لم يُدعَ إليه أحد.

هذه مناسبة تعود فيها إلينا.

هذا غير كافٍ. لا بدَ من إعادة قراءة حبر غسان ودمه.

لا بد من تأسيس نصاب متصل بالبدايات ومتوقع للآفاق.

كُتبه يجب ألا تقيم في الرفوف. نريد أن نعود إليه كتاباً كتاباً. نصاً نصاً. فعلاً فعلاً.

أهلاً بك اليوم وأهلاً بك في المستقبل. المستقبل الوحيد المضاء.. هو فلسطين.

هناك سنلتقي، فإلى اللقاء.

المصدر : موقع على الطريق

مواضيع ذات صلة

atyaf logo