عن البحر والسباحة وكلام في المحذور!

تعليم السباحة للأطفال فى غزة
تعليم السباحة للأطفال فى غزة

شاء القدر قبل أعوام عديدة أن ألتقي بمجموعة شباب من الضفة الغربية كانوا يكملون دراستهم الجامعية في مدينة اسطنبول، وقتها كنتُ أنا وأربعة أصدقاء من غزة أما باقي المجموعة فتوزعت على مدن الضفة الغربية والداخل المحتل.

في تلك الأيام التي امتدت إلى سنوات جرى التعارف الكبير بيننا حتى اتفقنا أن نذهب سويًا إلى البحر لنقضي يومًا سعيدًا هناك، خاصة أن البحر في اسطنبول لا يُشبه البحر الذي تعودنا عليه في غزة، وزيادة الشرح هنا قد توقعنا في المحذور .. المهم.

انطلاقًا من الصورة الذهنية عن أهل غزة بأنهم سوبر مان، ويحبون الفلفل الأخضر والمشاكل، وقعنا في سيرة فخ جديد ألا وهو فخ السباحة، فقد ظن زملائنا الذي جاؤوا من مدن الجبال في الضفة الغربية بأننا "أهل الساحل" نستطيع السباحة والغطس وكأننا مجموعة أسماك بلا أي صعوبة، بل أن أحدهم قال لصديق لي أظهر بأنه يستطيع السباحة بأن يعذره لو لم يتمكن من السباحة بشكلٍ ماهر لأنه تعلَّم في برك السباحة وليس في البحر، المهم صديقنا نظر ناحية الشقيق بنظرة شفقة وقال له ألَّا يهتم وإن شاء الله يستطيع السباحة في البحر قريبًا.

اقرأ/ي أيضاً: إعلامي لبناني: لا شيء يمنع أن تتحول غزة إلى "سنغافورة"

تخففنا جميعًا من ملابسنا العلوية، وبقينا نحن الأربعة "الغزازوة" نلبس شباحاتنا الداخلية، مما أثار استغراب أخوتنا السباحين من الضفة الغربية، مما دفع أحدهم لسؤالنا عن فائدة الشباح في عملية السباحة البحرية- بما إننا أبناء الساحل ونُعد خبراء تقنيات السباحة البحرية وأكل الفلفل الحرَّاق- وهنا شعرنا بالحرج من هذا السؤال ولم نعرف هل هو استغراب فعلًا أم سخرية! المهم أن صديقنا "السمكة" الذي كان السبب في هذه الرحلة قد أخبره أننا نسينا خلعها فقط، بعدها أخذنا صديقي "السمكة" بضع خطوات للأمام داعيًا "الغزازوة" إلى التقدم قليلًا لمعرفة منطقة السباحة الآمنة والخالية من الدوّام. تحدث أربعتنا بصوتٍ منخفض، وقتها قال لنا الصديق "السمكة" بأننا أصبحنا مسخرة، فلماذا نريد السباحة ونحن نلبس الشباحات، فنحن لسنا في غزة لنفعل ذلك؟! وانطلقت منا ضحكات عالية خلعنا فيها الشباحات ولوحنا باتجاه اعتقدنا إنه يؤدي إلى غزة.

كانت غزة حاضرة في الذاكرة والشعور في تلك اللحظات، إذ لا يسبح الناس هناك في الغالب إلا بالشباحات والشورتات التي لا تتعدى الرُكبة، لإعتبارات اجتماعية زادت بعد سيطرة حركة حماس على القطاع، مما خلق حالة من الضبط الذاتي والتوافق على المظهر العام للسباحة في البحر، لا أقول أن هذا أصبح قانونًا في غزة، لكني أستطيع القول أن الناس معظم الناس قد التزموا بهذا العقد غير المكتوب تلافيًا لنظرات البعض أو اتقاء لمتطفل قد يأتي لتقديم النصيحة المغلفة بالعيب والتحريم بحجة كشف العورة، علمًا أن السُّرة والركبة لا تدخلان في حيز العورة دينيًا، لكنه الجهل أو الفهم العام المغلوط لمفهوم الحشمة.

اقرأ/ي أيضاً: "اللحام": قادة الانقسام يفسدون مشهد الانتصار في جنين

خلعنا شباحاتنا ودخلنا في البحر بنفسيّة محمد الفاتح، وما هي إلا دقائق حتى وصل "أهل الجبل" إلى مسافات بعيدة داخل البحر، وبقينا نحن "أهل الساحل" على مقربة من الساحل نمارس حركات بدائية جدًا في السباحة لا تتعدى حركات الأطفال الذين يغرقون في شبر الماء، استمرينا في اللعب على مقربة من الشاطئ وأمعنا النظر في جماليات الشاطئ التي اتفقنا من البداية ألا نُسهب في وصفها اتقاء الوقوع في المحظور.

خرج الزملاء "أهل الجبل" وهم يرمقوننا بنظرات غريبة كانت مليئة بالتساؤلات المُستعجِبة من عدم قدرتنا على الدخول إلى البحر والسباحة مثلهم، مما أثار حفيظة صديقي "السمكة" الذي ردَّ على تساؤل أحدهم بعدم دخوله هو شخصيًا إلى البحر وهو الذي صدع رؤوسهم بقرب مسكنه من البحر، فما كان من الصديق السمكة إلا أن جلس على ركبة ونصف وقال: "أنا قلتلك ساكن على البحر، ما قلتلك بعرف أسبح!" لقد قالها بطريقة كوميدية عجيبة جعلتنا نضحك بصوت مرتفع حتى التفت إلينا مجموعة من الجارات اللواتي كن في لحظة استجمام يصعب وصفها كما أسلفنا في بداية المقال.

لفتتني هذه الذكرى وأنا أشاهد مجموعة من الأطفال يتلقون دورة في السباحة وهم في عمر الخمس والست سنوات، بينما أنا الذي أُتم بعدَ أيامٍ عامي السابع والثلاثين ولا أستطيع السباحة بشكلٍ صحيح، هذه الفجوة بين أجيال تسكن في أغلبها على مقربة من البحر لكنها لم تتعلم السباحة بالشكل الذي يعفيها من الحرج إذا تصادفت يومًا وسبحت مع أجيال لم تعرف البحر يومًا لكنها أبدعت في خلق البديل.

بينما عشرات الأطفال يسبحون أمامي قال والد أحدهم لمدرب السباحة: "عملكم هاد فيه معروف كبير، بُكرا لما يهاجروا الأولاد ويعرفوا يسبحوا راح يتذكروكم بالخير" بعد كلمة الأب جالت في خاطري صور الأطفال بعد عشرين عامًا وهم ينجون بفعل سباحتهم التي يتعلمونها الآن بهدف الاستجمام لتكون سببًا لنجاتهم من الغرق في رحلة البحث عن حياة أخرى خلف البحر، هذه النجاة المفترضة وهذه الصورة التخيلية التي لا أريد لها أن تتحقق ستبقى وصمة عار على جبين كل الأسماء السياسية التي ما زالت تعيش على الانقسام والفرقة، هؤلاء هم من سوف يجعلون خيال الكتاب حقيقة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo