بخصوص تسليح الفضاء وحروب المستقبل

تسليح الفضاء
تسليح الفضاء

ارتبط الحديث عن سياسات الفضاء الخارجيّ بفترة ما بعد الحرب الباردة، حين أدركَ خصوم الولايات المتّحدة الأميركيّة كالصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشماليّة أهميّة الفضاء كمجالٍ استراتيجيّ رئيسيّ يُمكنهم من خلاله هزيمة الولايات المتّحدة الأميركيّة، اعتقاداً منهم بأنّ حرمان الجيش الأميركيّ من الوصول إلى الفضاء قد يؤدّي إلى الحدّ من الهَيْمنة الأميركيّة في المجالات الاستراتيجيّة الأخرى كافّة.

اتَّسم الصراع، خلال فترة الحرب الباردة، بسياسةِ ضبْط النَّفس بين قطبَيْ الصراع، وذلك من خلال توقيع العديد من الاتّفاقيّات الثنائيّة، والانخراط في مُفاوضاتٍ لحظْرِ نَشْرِ القدرات العدوانيّة في الفضاء. وعلى الرّغم من ذلك لم تخلُ تلك الفترة من تجارب نوويّة لأسلحةٍ أميركيّة وسوفييتيّة غير خاضعة للرقابة.

يُصنِّف الخبراءُ حربَ الخليج الثانية التي انطلقت في العام 1991 على أنّها "حرب الفضاء الأولى"، والسبب في ذلك هو أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقوّات التحالُف اعتمدت بشكلٍ كبير آنذاك على الأقمار الصناعيّة لنظامِ تحديد المواقع في العال (GPS)، وعلى أنواعٍ أخرى من قدرات الأقمار الصناعيّة لإدارة الصراع العسكري والسيطرة عليه.

تسارُعٌ دوليّ

شهدت العقود الماضية تنافُساً دوليّاً شَرساً في الفضاء؛ ففي أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، شهدَ الفضاءُ العديد من التجارب لبرامج الأسلحة الفضائيّة الأميركيّة آحاديّة الجانب، أبرزها الاختبار الصيني، الذي أُجري في العام 2007، لسلاحٍ حربي مضادّ للأقمار الصناعيّة على مدارٍ أرضي منخفض على ارتفاع 500 ميل فوق الأرض، ودمَّر بنجاح قمراً صناعيّاً صينيّاً قديماً للأرصاد الجويّة الصينيّة، وأنشأ أكثر من 3000 قطعة من النفايات الفضائيّة، الأمر الذي أدانه المُجتمع الدولي، ونتج عنه العديد من الآثار السلبيّة، ليس على علاقات أمن الفضاء فحسب، ولكن أيضاً على البيئة الفضائيّة الماديّة.

اقرأ أيضاً: "زوايا" يكشف: الانتخابات الطلابية جاهزة والمحلية "غير ناضجة" في غزة

أفادت الحكومة الصينيّة آنذاك بأنّها لن تُجري اختباراتٍ إضافيّة، ومع ذلك، تمَّ إجراء اختبارات مماثلة خلال عامَيْ 2010 و2013 تحت ستار الدّفاع الصاروخي. والجدير بالذكر أنّ اختبار العام 2013 وصلَ إلى ارتفاع 18600 ميل، بالقرب من المدار المتزامن مع الأرض (22.236 ميلاً) حيث توجد معظم أقمار الولايات المتّحدة الأميركيّة.

في العام 2015، اختبَرت الصين مركبتها الخارجيّة التي قيل عنها إنّها قادرة على تدمير الأقمار الصناعيّة الأميركيّة، وذَكرت تقاريرٌ صحافيّة صينيّة أنّ الاختبار كان تجربة طيران اعتراضيّة للدفاع الصاروخي، وذُكِر وقتها أنّ الصاروخ الذي تمّ اختباره كانت لديه قدرات على متنه للاصطدام بالأقمار الصناعيّة وتدميرها.

وفقاً لإحدى الدراسات التي أُجريت في العام 2017 حول عدد الإطلاقات الصاروخيّة التي نفَّذتها مختلف الدول، احتلَّت الولايات المتّحدة الأميركيّة الصدارة بنسبة 32%، بينما تبعتها روسيا، والصين بنسبتَيْ 23% و20% على التوالي. أمّا الغريب في الأمر، فهو الدخول المفاجئ لنيوزلندا في هذا المجال، الأمر الذي يوضح أنّ المشروعات التجاريّة للمساعي الفضائيّة آخذة في الازدهار في جميع أنحاء العالَم.

في الوقت الرّاهن، بلغَ عددُ الدول الفاعلة في هذا المجال 14 دولة هي: روسيا، والولايات المتّحدة الأميركيّة، والصين، والمملكة المتّحدة، وفرنسا، وكندا، واليابان، والهند، وإسرائيل، وأوكرانيا، وإيران، وكوريا الشماليّة، وكوريا الجنوبيّة، ونيوزلندا.

ما بين التسليح والتأمين

دَفَعَ تسارُع اتّجاه القوى الدوليّة نحو الفضاء الخبراءَ إلى إثارة الجدل حول أفضل طريق لأمن الفضاء؛ حيث يرى البعضُ أنّ الدِّفاعات الفضائيّة ستكون ضروريّة لحماية الأقمار الصناعيّة العسكريّة والمدنيّة المُهمّة. أمّا البعض الآخر، فيرى أنّ الفضاء يجب أن يكون "ملاذاً آمناً" من الأسلحة المُنتشرة والصراع العسكري، ولاسيّما بالنّظر إلى التهديد المُتفاقِم الذي يشكّله الحطام الفضائي المداري.

ما زال النظام القانوني المُعتمَد لتنظيم الأنشطة الفضائيّة غير قادر على معالجة التطوُّرات التكنولوجيّة الحديثة؛ فمع تزايُد عدد الدول الفاعلة في هذا المجال بهدف الحفاظ على المصالح الوطنيّة، لم تعُد هناك نيّة حقيقيّة من قِبَلِ تلك القوى تجاه تشكيل نظامٍ قانونيٍّ فعَّال يُمكنه أن يُعالِج الأبعاد المختلفة لعسْكرة الفضاء، وذلك على الرّغم من وجود العديد من الاتّفاقيّات التي تُجَرِّم استخدامَ الفضاء لأغراضٍ عسكريّة، أبرزها "معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967"، والتي وافقت عليها أكثر من 100 دولة.

في العام 2020، أعلن الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" إنشاءَ الفرع السادس للجيش الأميركي المعروف باسم "قوّة الفضاء"، وهو المسؤول عن مجموعة من القدرات العسكريّة الأميركيّة الحيويّة في الفضاء، والتي تشمل كلّ شيء بدايةً من الأقمار الصناعيّة - العمود الفقري للجيش الأميركي - التي تعمل بنظام تحديد المواقع العالَمي (GPS)، وحتّى أجهزة الاستشعار التي تساعد في رصد إطلاق الصواريخ.

حذَّرَ بعضُ الخبراء الأميركيّين من خطورة تعرُّض الولايات المتّحدة الأميركيّة لحادثٍ من نَوع "بيرل هاربور" في الفضاء، وأكَّدوا على أهميّة تبنّي إصلاحات "ترامب" لسياسات الفضاء الأميركيّة، والتي نادت باستثمار ما يقرب من تريليون دولار على الأقلّ، في البحث والتطوير لحفْظِ مكانة الولايات المتّحدة الأميركيّة كقوّة عظمى، خاضت من أجل بنائها الحربَيْن العالَميّتَيْن الأولى والثانية، والحرب الباردة.

لم يقتصر الأمر على الولايات المتّحدة الأميركيّة فحسب، بل أصبحت حرب الفضاء شبحاً يطارد القوى الكبرى من أجل الفَوز بالتنافُس الجيوسياسي والعسكري؛ فقد اتّخذت بعض الدول الكبرى إجراءات معيّنة بهدف تعزيز وضعها في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال دَمجت فرنسا بين كلٍّ من القوّات الجويّة والقوّات الفضائيّة، كما أَعلن حلف الناتو أنّ أيّ هجوم على الفضاء أو منه أو داخله قد يتطلَّب استدعاءَ المادّة (5) المتعلِّقة بالدّفاع المُشترَك، أيضاً نَشرت المملكة المتّحدة مؤخَّراً كلّاً من استراتيجيّة الفضاء الوطنيّة، واستراتيجيّة الدّفاع للفضاء.

تشويش وقرصنة

يتوقَّع الخبراء أنّ الهجوم الأكثر ترجيحاً خلال الفترة المقبلة سيأتي على شكل تشويش أو حرب إلكترونيّة تمنع المُستخدِمين من تشغيل أجهزتهم، أو في شكل توجيه هجمات طاقويّة إلى أجهزة الاستشعار تؤدّي إلى إصابتها بالشلل التامّ، أو ربّما يتمّ شنّ هجومٍ مُقرْصِنٍ على كمبيوترات المحطّة الأرضيّة التي تتحكّم في القمر الصناعي، بحيث تتمّ السيطرة عليه والتحكُّم فيه بشكلٍ لا تستطيع الدولة المالكة للقمر الصناعي تشغيله.

في هذا الصدد يقول "براين ويدين"، وهو ضابط سابق في القوّات الجويّة الأميركيّة: "إنّ هذا النهج غير الحركي هو أكثر قيمة لجعْلِ المعدّات عديمة الفائدة، بدلاً من تدميرها ماديّاً، وهي استراتيجيّة أقلّ تكلفة، ويصعب توجيه اتّهامٍ إلى جهة محدَّدة بارتكاب الهجوم".

اقرأ أيضاً: صحيفة روسية: المبادرة الصينية ترحيب فلسطيني وحذر اسرائيلي

تشير البيانات إلى وجود 3372 قمراً صناعيّاً في الفضاء، 77% منها (أي 2612 قمراً صناعيّاً) في المدار الأرضي المُنخفض، و16.6% (أي 562 قمراً صناعيّاً) في المدار الثابت للأرض، و4% (أي 139 قمراً صناعيّاً) في مدارٍ أرضيّ متوسّط. وعموماً تبلغ نسبة الأقمار الصناعيّة العسكريّة أو ذات الاستخدام المزدوج 15.5% أي نحو 516 قمراً صناعيّاً.

في ضوء ما سبق، يُمكن القول إنّ الاعتقاد السائد بحتميّة تسليح الفضاء نابع من الاقتناع بأنّ حروب المستقبل ستنصرف إلى حروب الفضاء التي لن تختلف بالضرورة عن الحروب التقليديّة، وكذلك ضرورة السعي وراء القدرات الفضائيّة كي تملك الدول خيار نشرِ أسلحةٍ في الفضاء لردْعِ التهديدات، والدّفاع ضدّ الهجمات المُحتملة على مصالحها القوميّة، هذا بالإضافة إلى حتميّة الانخراط في تسليح الفضاء، خشية أن يُفهم ضبْطُ النَّفس على أنّه ضعفٌ مُحتمَل.

أصبح الفضاءُ الخارجي مسرحاً لمُنافَسة القوى الفضائيّة الكبرى، وأضحت عسْكَرَتُه أمراً واقعاً يؤجِّج احتمالات الصراع في المستقبل، ولاسيّما في ظلّ تنامي المشاعر العدائيّة، وتبنّي السيناريو الأسوأ لا التعايش السلمي بين الدول في اتّجاهٍ مُنافٍ للّذي تنصّ عليه الاتّفاقيّات الدوليّة.

لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فقد أُتيحت الفُرص لدول أخرى كي تنخرط بدورها في عسكرة الفضاء، ما يعني أنّ سباق التسلُّح الفضائي الجديد يدور بين أقطابٍ عدّة، مدفوعاً بتصاعد الأهميّة الاستراتيجيّة للأقمار الصناعيّة التي أصبحت جزءاً من البنية التحتيّة الحيويّة للعديد من البلدان.

المصدر : مؤسسة الفكر العربي

مواضيع ذات صلة

atyaf logo