إسرائيل تقوم بضم الضفة الغربية رسمياً

التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية
التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية

في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967، ناقشَ مجلسُ الأمن الدولي قرارًا أصبح في ما بعد أهمَّ توجيهٍ للمجتمع الدولي بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني منذ خطة تقسيم فلسطين في العام 1947. تعلّقَ النقاشُ بنتائج حرب العام 1967، التي انتصرت خلالها إسرائيل على جيرانها العرب واستولت على الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء من مصر، ومرتفعات الجولان من سوريا.

في مجلس الأمن، قال وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك أبا إيبان: “سنحترمُ ونُحافظُ بشكلٍ كامل على الوضع المتجسّد في اتفاقيات وقف إطلاق النار إلى أن تخلفه معاهدات سلام بين إسرائيل والدول العربية لإنهاء حالة الحرب”. لم يكن إيبان دقيقًا تمامًا؛ عندما أدلى بتصريحه، كانت إسرائيل طبّقت أصلًا من جانبٍ واحدٍ قانونها على القدس الشرقية. ستفعل الشيء نفسه بعد 15 عامًا من خلال ضم مرتفعات الجولان رسميًا. وعلى مدى نصف القرن الماضي، عمّقَ التوسّعُ الاستيطاني في الضفة الغربية السيطرة الإسرائيلية وجعل الانسحاب العسكري يبدو غير مُرَجَّحٍ وصعبًا على نحوٍ متزايد. (أعادت إسرائيل شبه جزيرة سيناء إلى مصر كجُزءٍ من معاهدة السلام لعام 1979).

اقرأ أيضاً: السلطة والفصائل في القاهرة.. ماذا يدور في الكواليس؟

ومع ذلك، وبغضِّ النظر عن الخطاب الديبلوماسي الغامض، فإن خطابَ إيبان حدّدَ موقفَ إسرائيل الرسمي بشأن الضفة الغربية للسنوات الخمسين المقبلة: كان الوضع النهائي للأراضي المحتلة سيتحدّد من خلال محادثات تجري بوساطة أميركية. هذا، حتى سنوات قليلة مضت – عندما بدأ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الدفع علانية بسياسة الضمّ من جانبٍ واحد. كانت المناورة البيروقراطية الأخيرة داخل حكومته اليمينية المتطرفة الجديدة قد جعلت الضمَّ رسميًا من خلال البدء في عملية نقلِ العديد من السلطات المُشرِفة على الضفة الغربية من القادة العسكريين إلى القادة المدنيين – في انتهاكٍ صارخٍ للقانون الدولي.

منذ البداية، سعت إسرائيل إلى تكريسِ سيادتها أحادية الجانب في الضفة الغربية. لعقود من الزمان، بينما كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتحدّث بلطفٍ إلى العالم حول الوضع المستقبلي للأراضي المحتلة الذي يتم حلّه من خلال المفاوضات، فإنَّ تصرّفاتَ الدولة على الأرض تروي قصةً مختلفة تمامًا.

بموجب القانون الدولي، تُعتَبَرُ دولةُ الاحتلال سلطةً إداريةً مؤقتة -وليست دولة ذات سيادة- للأراضي التي تحتلها. هذا يعني أنها مُلزَمة بالحفاظ على حالة الإقليم قبل الاستيلاء عليه قدر الإمكان. ولكن في الضفة الغربية، فعلت إسرائيل العكس – حيث تصرّفت بصفتها دولة ذات سيادة من خلال تسخيرِ أراضٍ وموارد الأرض في خدمة مشروعٍ استيطاني ضخم، معظمه في شكل مستوطنات إسرائيلية.

منذ العام 1967، قامت إسرائيل ببناء أكثر من 130 مستوطنة (وساعدت على بناء حوالي 140 بؤرة استيطانية) في الضفة الغربية. اليوم، يعيش 700,000 مستوطن إسرائيلي في المنطقة، حوالي 230,000 منهم في القدس الشرقية، وفقًا لمنظمة “السلام الآن”، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية. المستوطنون الإسرائيليون، الذين يتمتّعون بحقوقٍ مدنية وسياسية كاملة ويرتبطون بشكلٍ وثيق بالبنية التحتية والموارد الإسرائيلية، يقيمون جنبًا إلى جنب مع ملايين الفلسطينيين الخاضعين للحكم العسكري الإسرائيلي والذين ليس لديهم أيُّ رأيٍ في كيفية حكمهم. شَبَّهَ العديد من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والدولية هذا النظام المتشعّب بالفصل العنصري.

تُعتَبَرُ قوانين الحرب الدولية، وكذلك النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، نقل سكانٍ مدنيين لدولةٍ محتلة إلى الأراضي المحتلة جريمةَ حرب. جنبًا إلى جنب مع الحظر المفروض على عمليات النقل القسري داخل إقليم وترحيل الأشخاص المحتلين إلى خارج أراضيهم – وقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية لائحة اتهام ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسبب الأخير – تم تصميم هذا الحظر لضمان عدم قيام القوة المحتلة بهندسة الأراضي المحتلة ديموغرافيًا. لكن من الواضح أن إسرائيل فعلت ذلك، وهي تخطط الآن للتصعيد من خلال المزيد من التوسّع الاستيطاني.

ومع ذلك، فإن الكلمات والتصريحات لها أهمية خاصة في كلٍّ من العلاقات الدولية والقانون الدولي. لذلك على الرُغم من الأدلّة الوفيرة والقاطعة على أنَّ إسرائيل تُمارسُ سيادتها في الضفة الغربية، في غيابِ إعلان علني رسمي بالضم – ومع وجود الأرض رسميًا تحت قيادةٍ عسكرية، وليست مدنية – لم يتعامل العالم مع تصرّفات إسرائيل على أنها انتهاكٌ للمبادئ الأساسية للقانون الدولي: حظر الضمّ الأحادي الجانب للأراضي المحتلة بالقوة.

بدأت الفجوة بين كلمات إسرائيل وأفعالها في الضفة الغربية تتغيّر في العام 2017، عندما بدأ مسؤولون في حكومة نتنياهو آنذاك مناقشةَ خططِ ضمّ المنطقة من جانب واحد. في كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، مرَّرَ حزب الليكود الحاكم بزعامة نتنياهو قرارًا يطلب من نوابه في الكنيست “متابعة” الضم الكامل للضفة الغربية. لكن كان من الواضح لأولئك الذين صوّتوا لصالح القرار أنه لا يتمتّع إلّا بوضعٍ إعلاني ولا يمكن تنفيذه على الفور بسبب الاعتراضات الدولية.

ثم، في الفترة التي سبقت انتخابات إسرائيل لعام 2019 وظهور مشروع الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب “صفقة القرن”، أعلن نتنياهو في مقابلاتٍ إعلامية أنه سيعزّز التطبيق “التدريجي” للسيادة الإسرائيلية على الأرض. نتنياهو قال إنه ناقش “الضم بالموافقة” – الموافقة الأميركية- مع إدارة ترامب.

كرَّرَ نتنياهو هذه الرسائل مرات عدة منذ ذلك الحين. الحكومة الجديدة التي شكّلها العام الماضي مع أحزابِ المستوطنين المتطرّفة ذكرت في بيانها “حق الشعب اليهودي الحصري على كامل أرض إسرائيل”. إتفاقُ الائتلاف بين الليكود والحزب الصهيوني الديني المتشدد بزعامة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أكثر تحديدًا، حيث ينصُّ على أنَّ “رئيسَ الوزراء سيعمل على صياغة وتعزيز سياسةٍ تُطبَّقُ بموجبها السيادة على يهودا والسامرة”. (يهودا والسامرة هما من الأسماء التوراتية للمناطق التي تتألف منها الضفة الغربية وعادة ما يستخدمها اليمين الإسرائيلي).

هذه هي الخلفية لقرار حكومة نتنياهو الأخير بتغيير هيكل الحكم الرسمي للضفة الغربية من خلال نقل العديد من السلطات الإدارية من القيادة العسكرية إلى القيادة المدنية. يجب أن تُزيل هذه التحركات أي شكوك متبقية بأن إسرائيل بصدد عملية الضم الكامل للضفة الغربية – بحكم القانون.

في أواخر شباط (فبراير)، وقّعَ سموتريش -المذعور من المثليين والمناصر للتفوّق اليهودي- اتفاقيةً مع وزير الدفاع يوآف غالانت لنقلِ عددٍ من السلطات الحكومية في الضفة الغربية من القائد العسكري للمنطقة إلى سموتريتش. (بالإضافة إلى عمله كوزير للمالية، فإن سموتريتش هو أيضًا وزيرٌ في وزارة الدفاع). تم الاتفاق على هذه الخطوة في اتفاق الائتلاف بين الليكود والحزب الصهيوني الديني.

في حين أن سموتريتش لم يتلقَّ حقيبة القائد الكاملة، إلّا أن النقلَ ما زال يُغيّرُ بشكلٍ كبير هيكل النظام الإسرائيلي في الضفة الغربية: للمرة الأولى، يوضَعُ العديد من السلطات الإدارية في الأراضي المحتلة بين يَدَي مدني. وقد عَنَت هذه الخطوة أن سموتريش صار حاكمًا فعليًا للضفة الغربية.

وفقًا للاتفاقية، سيُعَيِّن سموتريتش (المشار إليه ب”الوزير داخل وزارة الدفاع”) مدنيين في مناصب رسمية في الحكومة العسكرية، مثل منصب نائب رئيس الإدارة المدنية الذي تم إنشاؤه حديثًا، الوكالة العسكرية المسؤولة عن الشؤون المدنية للمستوطنين والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية؛ كما سيُعيّن المستشارين القانونيين لهؤلاء المسؤولين.

علاوة على ذلك، سيكون سموتريش هو المسؤول الوحيد عن تصميم الكثير من سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية. قضايا مثل تخصيص الأراضي والتخطيط والبناء في معظم المناطق خارج المدن والقرى الفلسطينية؛ تطبيق القانون على البناء غير القانوني من قبل كل من الفلسطينيين والإسرائيليين؛ بنية تحتية؛ تخصيص المياه؛ وأكثر من ذلك بكثير … تقع جميعها الآن ضمن اختصاص سموتريش.

يعمل بعض بنود الاتفاقية على تشويش عملية نقل الصلاحيات من خلال تقديم الحاكم الفعلي باعتباره تابعًا لوزير الدفاع. لكن وزير الدفاع سيكون له حق النقض فقط في الحالات القصوى –مثل عمليات الهدم واسعة النطاق في المناطق الفلسطينية– وفي كلتا الحالتين، ستتجاوز هذه القرارات القائد العسكري. لا يخفي سموتريش حقيقة أنه ينوي توسيع سلطات الحكومة الإسرائيلية لتشمل المستوطنات من خلال تفكيك الإدارة المدنية بالكامل، الأمر الذي من شأنه أن يمنح السلطات الإسرائيلية سلطةً مباشرة على الضفة الغربية.

اقرأ أيضاً: ترجمة خاصة الذكاء الاصطناعي يزيد التفجيرات على غزة

وينص الاتفاق أيضًا على أن الحاكمَ الفعلي سيعمل على توسيع النظام القانوني المزدوج في الضفة الغربية من خلال السماح لتشريع الكنيست بالتطبيق بشكل كامل على المستوطنين الإسرائيليين، بينما يظل الفلسطينيون خاضعين للقانون العسكري. سيتم تكليف المستشارين القانونيين بصياغة أوامر عسكرية من شأنها تطبيق التشريعات الإسرائيلية رسميًا على المستوطنين، وهي عملية يُطلَقُ عليها اسم “التوجيه” لأن القانون العسكري يوجّه قانون الكنيست إلى الأراضي المحتلة.

ينصُّ القانونُ الدولي على أن القوة المحتلة –في هذه الحالة، إسرائيل– يجب أن تُعزّزَ مصالح الأراضي المحتلة أثناء احتلالها المؤقت. من خلال نقل السلطات الإدارية في الضفة الغربية من الجيش إلى وزيرٍ إسرائيلي والخدمة المدنية، تتنازل إسرائيل عن هذا الواجب ليس فقط في أعمالها –كما فعلت منذ فترة طويلة– ولكن أيضًا على الورق. وذلك لأن موظفي الخدمة العامة الإسرائيليين مُلزَمون ومُدَرَّبون على تعزيز المصالح الإسرائيلية وحدها.

إنَّ صمتَ العالم في مواجهة هذه التطورات هو تجسيدٌ خطيرٌ بشكلٍ خاص لاستثنائية إسرائيل في الساحة الدولية. إن لامبالاة الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تجاه النظام القانوني الإسرائيلي المُتَغَيِّر في الضفة الغربية له عواقب وخيمة على الحياة الواقعية للفلسطينيين تحت الاحتلال. لكن خطأ المجتمع الدولي الفادح ليس بالشيء الجديد. لقد كان سمة – وليس خللًا – للنظام منذ اليوم الأول للاحتلال الإسرائيلي.

إنَّ صمتَ الغرب يقوّضُ أيضًا نزاهته ومصداقيته في حربه ضد التوسّع الروسي في أوكرانيا. يُعَدُّ حظرُ الضمّ الأحادي الجانب للأراضي المحتلة مبدأً أساسيًا للنظام القائم على قواعد ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. إن الفشل في تحميل إسرائيل المسؤولية لا يُقوِّضُ مصداقية الغرب فحسب، بل له تأثير مزعزع للاستقرار على كامل النظام الدولي. من خلال منح نتنياهو تصريحًا مجانيًا، يمنح المجتمع الدولي القادة الآخرين ذوي الميول التوسّعية -مثل بوتين- وصفةً لكيفية الاستيلاء على الأراضي بالقوة من دون عواقب.

الطريقُ السريع إلى الضمِّ القانوني هو إعلانٌ رسمي وعام، كما أدلى به بوتين عندما ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014. لكن الضم لا ينطوي بالضرورة على الأبّهة والاحتفال. يمكن أن يحدث ذلك في مكاتب مُملّة بلا نوافذ ومن خلال إجراءاتٍ إدارية وبيروقراطية تبدو كئيبة.

فَضحُ ضمّ إسرائيل يتطلّب التركيز والنظر والتبصّر. هذا ما يفشل المجتمع الدولي في القيام به، ولهذا السبب لم يؤدِّ انتهاكُ إسرائيل الوقح للقانون الدولي إلى إثارة الغضب الذي يستحقه. تم تعليق الخطاب الدولي حول النسخة الاحتفالية الرسمية والعلنية للضم – ضمّ بوتين، الذي قوبل بحقٍّ بتوبيخ وعقوبات. العالم لا يعرف كيف يتعامل مع تكتيكات نتنياهو.

على الرُغمِ من أنه لم يكن مصحوبًا ببيان كبير، فإن نقلَ حقيبة من وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى سموتريتش يرقى إلى مستوى ضمٍّ قانوني للضفة الغربية – وهو خطوة خطيرة نحو ترسيخ الفصل العنصري داخل الأراضي المحتلة.

المصدر : موقع أسواق العرب

مواضيع ذات صلة

atyaf logo