هل تستحق (دويلة غزة) كل هذا الثمن؟

صورة لقطاع غزة
صورة لقطاع غزة

بعد ما آلت إليه الأمور في قطاع غزة من التزام حركة حماس بهدنة مع إسرائيل جوهرها ضمان استمرار سلطة حماس في غزة من خلال تسهيلات مالية واقتصادية وعدم استهداف قياداتها في مقابل وقف حركة حماس لكل اعمال التصعيد العسكري، أو بصيغة أخرى وكما نص اتفاق الهدنة لعام 2014 (وقف الأعمال العدوانية بين الطرفين)! وهي هدنة لم يكسرها اغتيال إسرائيل لقيادات من الجهاد خلال هذا الشهر وتُركت حركة الجهاد الإسلامي تخوض وحدها مواجهة مع جيش الاحتلال للمرة الثانية، كما لم يؤثر فيها استمرار الاستيطان وتكثيفه واستمرار اغتيال المناضلين و اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى ولا مسيرة الإعلام الاستفزازية، بعد كل ذلك لنا أن نتساءل إن كانت دويلة غزة الحمساوية تستحق كل هذا الثمن من تدمير المشروع الوطني والانقسام وأكثر من سبعة حروب مدمرة على القطاع أدت بحياة أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى والأسرى وحصار القطاع بالإضافة الى إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس؟ 

وهل حديث بعض قادة حماس الآن عن الواقعية السياسية وتحكيم العقل في موضوع الحرب وحرصهم على أرواح المواطنين كتبرير عدم مشاركة حماس في المواجهات الأخيرة يندرج في سياق العقل والعقلانية والواقعية السياسية بالفعل؟ أم أنه تغليب لمصلحة الحزب وقياداته على المصلحة الوطنية.؟ وإن كانت عقلانية وواقعية فلماذا الآن بعد سيطرة حماس على القطاع واستقرار الأمر لها بموافقة إسرائيل؟ بينما كانت ترفض كل الدعوات من القيادة الفلسطينية، في عهد أبو عمار وفي عهد أبو مازن، التي كانت تترجاها بالقبول بهدنة ولو مؤقتا؟ 

فهل قبل سيطرة حماس على القطاع كانت المقاومة، من خلال إطلاق الصواريخ من غزة وبناء الأنفاق التي كلفت مئات ملايين الدولارات، وطنية ومشروعة ومقدسة والآن بعد سيطرتها على القطاع وتوقيعها لهدنة أصبحت مشبوهة وغير وطنية وفي غير مصلحة الشعب في غزة وتغطي على جرائم الاحتلال في الضفة والقدس؟! وبعد أن أوقفت حماس إطلاق الصواريخ انطلاقا من قطاع غزة فما هو الدور الوطني لقطاع غزة، وما هو دور ووظيفة حماس وفصائل المقاومة في غزة بالنضال الوطني بشكل عام؟ 

قد يبدو هذه التساؤلات مستفزة بالنسبة للبعض لكونه يثير شكوكا حول هدنة (توافقت) عليها الفصائل الفلسطينية، وقد يقول قائل لماذا تشكك بالهدنة، وهل أتريد أن تستمر إسرائيل بقتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم في قطاع غزة؟ ولن تعوز الذين باتوا اليوم من اشد الداعين للهدنة والتهدئة مع العدو الأدلة والبراهين من النصوص الدينية وحتى من القانون الدولي والشرعية الدولية لدعم موقفهم من الهدنة بعد أن كانوا يكفِّرون ويخَوِّنون الداعين لها سابقا. 

ولكن دعونا نحكم العقل والمنطق في قضيتنا الوطنية وتحكيم العقل والمنطق يستدعي طرح التساؤلات التالية: هل الهدنة الآن بعد فشل عملية التسوية وتكثيف إسرائيل لعمليات الاستيطان والتهويد وتدنيس الأقصى... تخدم القضية الوطنية؟ أم هي إعلان فشل نهج الجهاد والمقاومة؟ أم أنها تصب في خدمة مخطط مدروس مسبق؟ وهل بتوقيع الهدنة انتهت وظيفة المقاومة والجهاد؟ 

منذ بداية وجود السلطة وعندما كانت المفاوضات تجري بجدية وكانت إسرائيل تتعرض لضغوط دولية لتنفيذ بنود التسوية والانسحاب من بعض الأراضي المحتلة، كان الرئيس الراحل أبو عمار يناشد فصائل المقاومة بالالتزام بهدنة مؤقتة دون أن يسئ الرئيس للمقاومة أو يخونها ولم ينزع سلاحها، بل كان يناشد الفصائل بالتهدئة حتى لا تستغل إسرائيل عمليات المقاومة وخصوصا العمليات داخل أراضي 48 لتتهرب مما عليها من استحقاقات. 

لم يكن يحلو لفصائل المقاومة وخصوصا حركة حماس القيام بعملياتها إلا عندما تكون المفاوضات وصلت لمرحلة حاسمة مطلوب فيها من إسرائيل الانسحاب من أراضي فلسطينية أو إزالة حواجز، وكان رد إسرائيل على هذه العمليات وقف المفاوضات والتوجه للرأي العام العالمي و الدول التي ترعى عملية السلام باكية شاكية بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام وأن أمنها مهدد وأن أبو عمار غير صادق أو غير قادر على ضبط الأمور الخ، ولا تكتفي إسرائيل بتهربها مما عليها من التزامات بل تقوم ببناء الجدار العنصري تحت ذريعة حماية أمنها وتزرع أراضي الضفة بالحواجز وتكثيف عمليات الاستيطان والتهويد وتدمر مقرات السلطة الوطنية، وهي تعلم أن الذين قاموا بالعمليات الفدائية من خصوم السلطة !.

وعندما جاء الرئيس أبو مازن ناشد فصائل المقاومة الالتزام بتهدئة مؤقتة وبشروط مشرفة حتى لا تستعمل إسرائيل الصواريخ التي تنطلق من غزة كذرائع لتدمير ما تبقى من مؤسسات ومراكز السلطة وحتى لا توظفها لبناء مزيد من المستوطنات، ولم تستجب له الفصائل التي كانت تطلق أحيانا صواريخ لا تصيب هدفا ولا تُوّقِع مقتلا بالعد، فقط للتخريب على جهود الرئيس أبو مازن واستجلاب أموال من جهات خارجية معنية بإفشال عملية التسوية و لإحراج الرئيس وإظهاره بمظهر الضعيف، ومع ذلك لم يأمر الرئيس أبو مازن بجمع سلاح المقاومة أو اعتقال مجاهدين وكان أقصى ما قاله إنها صواريخ عبثية، وفعلا كانت، وبعد سيطرة حماس على غزة رفض الرئيس أبو مازن أي صدام مسلح ضدها كما ندد بكل عدوان إسرائيلي على غزة. 

لم تستمع حركة حماس وبقية الفصائل للرئيس أبو مازن كما لم تستمع من قبل للرئيس أبو عمار، وعندما كانت تضطر للرد على  الضغوط  الداخلية والخارجية التي تطالبها بالقبول بالهدنة كانت تضع شروطا كالقول بأنها مستعدة للالتزام بهدنة لمدة خمسة عشر عاما ولكن بعد انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي المحتلة عام 67 وإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وكانت تعتبر أن الهدنة مع عدو يحتل الأرض ويدنس المقدسات نوعا من الخيانة ،خيانة الوطن وخيانة دماء الشهداء، وما زالت شعاراتهم بهذا الخصوص مكتوبة على الجدران وموثقة في وسائط التواصل الاجتماعي، فما الذي جرى وصيَّر الحال إلى عكسه؟. 

لم تكن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة مجرد انقلاب على السلطة وعلى منظمة التحرير والمشروع الوطني ومشروع التسوية بل كان أيضا انقلابا على فكر ونهج المقاومة بمفهومها الوطني وعلى شعارات حركة حماس ذاتها، وبقدرة قادر باتت الهدنة مصلحة وطنية، واغرب ما في هذه الهدنة أنها ملزمة لفصائل المقاومة وغير ملزمة لإسرائيل، وأصبح ناطقون باسم حركات المقاومة يقولون إن فصائل المقاومة ستلتزم بالهدنة ما دامت إسرائيل لا تعتدي على قطاع غزة! وكأن هدف الفصائل فقط الدفاع عن القطاع ولا يعنيهم ما يجري في بقية فلسطين!

وهنا نتساءل هل بات قطاع غزة كيانا مستقلا قائما بذاته وبالتالي يجوز له الاتفاق على هدنة مع إسرائيل بمعزل عما يجري في الضفة والقدس ولا نريد القول بما يجري في فلسطين 48 التي قامت حركات المقاومة أصلا لتحريرها؟ أليست الضفة والقدس أراضي محتلة والعدوان متواصل هناك بشكل أبشع مما يجري في غزة؟ وهل حلت غزة محل فلسطين؟ وهل خرجت غزة من ساحة المواجهة مع العدو وهي التي كانت تاريخيا شوكة في خاصرة العدو؟ 

ما يجري في قطاع غزة مخطط مرسوم يخدم مصلحة إسرائيل وقد سبق أن تحدثنا عنه مطولا، مخطط يريد اختزال فلسطين بغزة وإنهاء الحالة الوطنية النضالية في الضفة الغربية وغزة، ونخشى أن تؤدي الهدنة لترسيم حدود بين غزة وإسرائيل وبالتالي إخراج قطاع غزة من ساحة العمل الوطني. 

إن أي هدنة مع إسرائيل يجب أن تكون في إطار استراتيجية وطنية شمولية وأن تشمل الضفة وغزة، بمعنى أن التزام فصائل المقاومة بالهدنة يقابله وقف الاستيطان في الضفة والقدس ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى مع وجود أفق لحل سياسي عادل، وفي حالة عدم التزام إسرائيل بوقف عدوانها في الضفة وغزة تتحرر فصائل المقاومة من الهدنة.

وأخيرا، لو كان هذا الثمن الباهظ مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في قطاع غزة لكان من الممكن التفكير بالأمر، ولكن وحتى الآن الأمر يتعلق فقط بسلطة ناقصة السيادة ومحاصرة تحكمها حركة حماس، أما أن يصل الأمر لدولة أو دويلة ذات سيادة تتحكم في البحر والجو وفي المعابر فهذا ما لن تقدمه إسرائيل لحماس أو لغيرها إلا بأثمان ستكون أكبر وأخطر مما تم تقديمه حتى الآن.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo