عن كتاب رسائل فوق المسافات والجدران

الكاتبة نسب أديب حسين
الكاتبة نسب أديب حسين

كان الأمر يحدث ليلًا دون دراية منّي في فندق الكرمل برام الله الذي أقمنا فيه لثلاثة ليالٍ لمتابعة حضور معرض فلسطين الدولي للكتاب في دورته الثانية عشر.

في ذلك المساء البارد كُنت أتسكع في شوارع رام الله التي تنعم بالدلال والجمال والرائحة العتيقة برفقة بعض الأصدقاء الذي أصروا عليّ بأن أتمشى كي أكتب عن رام الله، وأنا هكذا بالفعل، أمشي لكي أكتب، فالمشي في البلاد الجديدة متعة لا توصف وتخزين كثيف للصور الذهنية التي سوف يأتي عليها الوقت للتحول إلى حروف مكتوبة تحفظ العهد والود، وها هي تحصل الآن في هذا المقال.

WhatsApp Image 2023-04-10 at 14.21.10.jpeg

في ذلك التسكع وصلني اتصال من أحد الأصدقاء في الفندق يخبرني أنّ سيدة تسأل عني، فتبرع الصديق بالاتصال بي يستعجلني، فاستعجلت نفسي وأنا أسأله عن اسم تلك السيدة التي تسأل عني؟! فقال لي أنها جاءت من القدس لتلقي السلام على القادمين من غزة للمشاركة في المعرض. يا للروعة، سيدة تسأل عني، ومن القدس أيضًا، هذا عيد أيها الولد الذي يطلقون عليه صفة كاتب!

أنا قادم قلت لصديقي، وغيرنا الاتجاه ثم وصلنا إلى فندق الكرمل في حي "الماصيون" كان الفندق شاهق الارتفاع مبني على جبل مرتفع جدًا يشرف على رام الله، وإن أنعم الله عليك بنعمة البصر فإنّك حتمًا سوف تُبصر القدس على مرمى النظر تجلس بأبهة الجميلات، القدس تلك المدينة المُعجزة التي كُنت قد يئست من زيارتها الحلم يومًا لفرط ما يأَّس الاحتلال قلوبنا، ولكن لله مقادير لا نعملها.

مررتُ من بوابة الفندق وأكملت مسيري ناحية البهو الصغير، فخلتُ المشهد كأنّه احتفال أقيم لتوّه يحضره أعضاء كثر من الرفاق في اتحاد الكتاب والأدباء ممن حالفهم الحظ بالحضور من غزة للمشاركة في معرض الكتاب برام الله، وكانت نسب تجلس برفقتهم، وردة مجلّلة بقدس الحكايات والثقافة ونور العروبة.

أخيرًا رأيت نسب الصديقة التي تعرفتُ عليها عبر فضاء الفيس بوك أُجالسها الآن ونتحاور في الكتابة والوجع وبرد رام الله وسيقان غزة المبتورة ومشاكسة بغداد الابنة.

كانت ليلة مليئة بالمستحيلات الفلسطينية، فقد تجمعنا على طاولة واحدة مثل الحلم تقريبًا، أو قل مثل العصافير من غزة ورام الله والقدس وعكا، وطن كامل كان يجلس في تلك الليلة غير آبه بالجنود الذي يبتعدون عن المكان مسافة رصاصة، إنها اللحظات التي قالت عنها نَسب في كتابها "رسائل فوق المسافات والجدران" هناك لحظات ليست لدينا قدرة التحكم بموعد إتيانها، وهذا ما حدث بالفعل.

نسب أديب حسين1987، الكاتبة والأديبة المقدسية ابنة قرية الرّامة في الجليل الأعلى شمال عكا، الحاصلة على شهادة الصيدلة ثم شهادة الماجستير في الدراسات المقدسية، تلك الإنسانة التي تتبعت خطى الأدب والثقافة فكتبت القصة القصيرة حتى فازت بجائزة نجاتي صدقي للقصة القصيرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2015، وكذلك جائزة دولة فلسطين في الأدب والعلوم الانسانية عن المبدعين الشباب في العام ذاته، وصدر لها العديد من المؤلفات بين الرواية والقصة القصيرة والتأريخ كان آخرهم كتاب (رسائل فوق المسافات والجدران – القدس وبيروت على حافة لقاء) ابنة الطبيب المناضل أديب القاسم حسين الذي واجه الإرهاب الصهيوني بالتشبث بهوية الأرض والعمل على زرع الأمل في نفوس الأجيال من خلال ما جمعه من وثائق استُخدمت في الكتاب الموسوعي (الرّامة.. رواية لم تروَ بعد 1870-1970). صدر هذا الكتاب عن دار طباق والبيت القديم كعمل مشترك بين الوالد والابنة الأديبة نَسبْ ، التي عملت على تخليد ذكرى والدها والوقوف على أهم مسارات حياته التي كانت في الحقيقة رسائل إصرار وتحدي عبر تحويل بيت العائلة بعد ترميمه عام 2006 إلى متحف يحمل اسم: البيت القديم - متحف د. أديب القاسم حسين، لتعرض فيه الحياة اليومية لسكان قرى الجليل.

اقرأ أيضاً: أسر بغزة تبيع مقتنيات منازلها لتوفر مصاريف رمضان

أخذنا الحديث في الفندق حتى أطلّت عليّ نسب بكتاب الرسائل خاصتها، فأعادت إلى ذاكرتي كتابي (رسائل إلى بغداد) الذي تحاورت فيه من ابنتي بغداد ذات العام الأول وسردتُ فيه الحكايات الاجتماعية والسياسية والفكرية ليكون لها ذاكرة وذكرى تترحم علينا فيها، وما أحلاها من ذاكرة وذكريات، وها أنا يُهدى إليّ كتاب ترجع رسائله إلى عام 1964، بين والد نسب الدكتور أديب القاسم حسين (1929-1993م) والمؤرخ اللبناني د. عجاج نويهض (1896-1982) الذي اضطر لترك القدس مع عائلته بعد النكبة بسبب استيلاء الاحتلال على منزلهم والعودة إلى قريته رأس التين في لبنان، ثم سفر والدها للولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته في طب الأسنان، وهذا تلخيص جائر لرحلة الأصدقاء التي تحمل مشاعر الصداقة والنقاشات الفكرية حول العروبة والقدس وحال الناس والشوارع بعد الاحتلال، إنها ليست رسائل شخصية بقدر ما هي نزف مستمر ودروس متجددة في النضال والتضحية والإصرار على إحقاق الحق مهما طال الزمن، وأخيرًا فعلت نسب عندما تعثرت صدفة وهي تجمع ذكريات الوالد في عيادته في مدينة عكا عام 2012 برسالة أرسلها له صديق من مدينة القدس حين كان الوالد في الولايات المتحدة عام 1964 ومن هنا انطلقت الفكرة محمولة بالحنين للبحث عن أصل الحكاية، فعادت للرسائل السابقة تقرأ فيها حتى اهتدت لرسائل المؤرخ اللبناني د. عجاج نويهض، ولكن كيف السبيل إلى المذكور وقد وراه الثرى، فتنادت نسب إلى عمها الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم تسأله عن صاحب الرسائل فلم يكن يدري فأخبرته أن الرسائل تحمل له السلام منذ أربعين عامًا، فتعجب الشاعر وأكّد على أهميّة الرسائل. ثمّ لجأت نسب إلى خالها في لبنان د. كمال خير الذي راح يهيم مع الهائمة حتى اهتدى إلى ابنة المؤرخ عجاج وهي الدكتورة بيان عجاج نويهض، أرملة المناضل الفلسطيني شفيق الحوت ممثّل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في بيروت.

وبعد ست سنوات عثرت د. بيان نويهض على رسائل د. أديب لأبيها فبعثت بها إلى الأديبة نسب شريكة الحلم ووريثة الذاكرة والسيرة، وراحتا تتبادلان الرسائل على سُنّة والديهما ليصبح لدينا كتاب جزيل المعاني والقصص، يحمل أسماء المناضلين والشوارع والأحياء، وحوارات عميقة عن النكبة والتهويد ومحاولة أسرلة المجتمعات العربية بمختلف طوائفها لتبقى بمثابة وثائق تاريخية شاهدة على حقبة مهمة من حقب الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني وما زالت القدس هي شرارة غضبه وأيقونة النضال المتجدد على مر العصور.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo