الضفة الغربية .. معركة كسر العظم

المواجهات في الضفة الغربية
المواجهات في الضفة الغربية

مرحلة جديدة من الصراع

تشهد الضفة الغربية هذه الايام تصعيدا وتوترا غير مسبوق, دفع اطرافا دولية واقليمية لعقد لقاءات سريعة على مستوى القادة في الاجهزة الامنية لمحاولة احتواء الموقف واطفاء النار التي طالت كل مدن الضفة الغربية.

ومن الواضح ان الضفة الغربية انطلقت من عقالها , وخرجت عن امكانية السيطرة , ولن تهدأ في مستقبل قريب او بعيد, فهنالك الكثير من العوامل التي تشكل صاعقا ومحفزا للفلسطينيين كي يتمردوا على هذا الواقع الاحتلالي المؤلم الذي يدفعون فيه الكثير من الدماء والشهداء والاسرى وهدم البيوت وتغول المستوطنين وتحول حياتهم الى جحيم.

دولة الاحتلال تعتبر الضفة الغربية " مرتعا للإرهابيين" وبؤرة من بؤر التهديد الاستراتيجي لأمنها ووجودها, وبالتالي تضع كل ثقلها من اجل اخماد أي نار تشب في الضفة من خلال ادوات القمع العسكري والهمجي. أما الفلسطينيون فيعتبرون ان الضفة تشكل ساحتهم الاستراتيجية للمواجهة مع الاحتلال من اجل اثبات فشله في كسر ارادتهم او تطويعهم او اغرائهم بالامتيازات الانسانية, كما انه يثبت قدرتهم على زعزعة امن الاحتلال وكسر خطوطه الحمراء واظهار فشله في احكام السيطرة على الضفة الغربية.

وبين هذا وذاك هناك العديد من المواقف الدولية والاقليمية التي تعمل بشكل واضح على تهدئة الاوضاع وسحب فتيل التصعيد , وهي بشكل عام تميل لصالح الاحتلال على حساب الفلسطينيين, اذا انها تتجاهل – عن عمد وغير عمد- كل الاجراءات الدموية التي تقترفها دولة الاحتلال وتحاول الضغط على السلطة الفلسطينية لممارسة نفوذها في احتواء التصعيد وقطع الطريق امام المقاومين.

منذ بداية العام الجاري قتل نحو 75 فلسطينياً في الضفة الغربية، وفق إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية، ما يجعله بداية العام الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سبتمبر (أيلول) عام 2000م، كما قتل 14 إسرائيلياً في عمليات متفرقة نفذها فلسطينيون في الضفة الغربية والقدس، خلال الفترة ذاتها.

اقرأ أيضا: الأب "رفيق جريش": الأوضاع في الأراضي الفلسطينية على صفيح ساخن

كما ان العدد الكبير من العمليات الفدائية, والذي يكاد يكون بشكل يومي, يشير الى تصميم وارادة فلسطينية لفتح جبهة ساخنة مع الاحتلال , مهما كلف الثمن , ولوضع كل ما يسمى بالعملية السلمية والمفاوضات والاتفاقات والتنسيق الامني وراء ظهرها وتبني خيار المقاومة كخيار أوحد, ويدلل على ذلك –على سبيل المثال لا الحصر – انه في يوم الخميس 9 مارس فقط تم رصد 25عملا مقاوما، من بينها 10 عمليات إطلاق نار، وإسقاط طائرة استطلاع، إلى جانب إلقاء زجاجة حارقة وعمليتي تصدٍّ للمستوطنين، وتحطيم مركبة لهم، واندلاع المواجهات في 10 نقاط. ورصد مركز معلومات فلسطين في تقريره الدوري، 1177 عملًا مقاومًا بالضفة الغربية والقدس المحتلتين خلال الشهر الماضي، أدت إلى مقتل 8 إسرائيليين، وإصابة 43 جنديًا ومستوطنًا بجراح مختلفة. وارتفع عدد قتلى جنود الاحتلال والمستوطنين منذ بداية عام 2023 إلى 15 قتيلًا، خلال شهرين فقط، ما يعادل نصف قتلى الاحتلال خلال عام 2022 بأكمله والبالغ عددهم 33 قتيلاً.

هذا الواقع يشير الى أن مرحلة جديدة قد دشنت, عنوانها أن المقاومة المسلحة أصبحت هي أمل المواطنين في ردع جرائم الاحتلال والمستوطنين, وأن الجيل الجديد لا يعرف الخوف وأصبح يتمرد على الاحتلال، خاصة في ظل انعدام الأفق السياسي والاقتصادي.

اسرائيل: فقدان السيطرة

اسرائيل ورغم امتلاكها كل مقدرات الامن والقوة في الضفة الغربية وتصميمها على اجتثاث المقاومة من جذورها الا أنها تجد نفسها امام سيل جارف لا يتوقف من الشبان العازمين على الانخراط في صفوف المقاومة والنيل من جنودها ومستوطنيها.

وبحسب الصحفي الاسرائيلي يوني بن مناحيم فإن المنطقة تستعد لانفجار وإسرائيل تواجه تحديا أمنيا كبيرا في الأسابيع المقبلة استعدادا لشهر رمضان، مشيرًا إلى أن إسرائيل لم تتعاف بعد من العمليات الاخيرة التي الحقت بها خسائر فادحة.

دولة الاحتلال التي تقودها حكومة يمينية متطرفة عقدت العزم على فرض الكثير من الحقائق الاحتلالية الاجرامية, وبكل صلافة ووقاحة, من خلال تكثيف حملات الاقتحام للمدن الفلسطينية واعتقال المواطنين وممارسة سياسة الاغتيال الجماعي وهدم البيوت وفرض المزيد من الاجراءات العقابية ضد مواطني الضفة الغربية.

فضلا عن ذلك سمحت لرعاع المستوطنين – وتحت رعاية الجيش والشرطة- الهجوم على الفلسطينيين في مدن الضفة وحرق منازلهم واشجارهم وممتلكاتهم واطلاق النار عليهم, كما حدث في مدينة حوارة.

ورغم هذا التحشيد الاحتلال- أمنيا وعسكريا- في الضفة الغربية فان كثيرا من القيادات الامنية والسياسية في دولة الاحتلال عبروا عن خشيتهم من ان يدفع ذلك الى انطلاق انتفاضة واسعة في الضفة والى دفع المواطنين الفلسطينيين لانخراط أوسع في صفوف المقاومة والى انتقال العمليات المسلحة الى داخل اسرائيل نفسها, ويقول هؤلاء ان حكومة نتنياهو انما تصارع الهواء ولا يمكن ان تحقق شيئا مما وعدت به من حيث "توفير الامن والقضاء على بؤر الارهاب".

وتشير التقديرات الامنية الاسرائيلية الى أنه بات من الصعب على قوات الاحتلال احكام السيطرة على الضفة او انهاء وجود المقاومة فيها, وأن فرص احتواء الاجواء المتوترة بات شبه مستحيل, وأنه كلما ظنت أنها قضت على خلية عسكرية نبتت أخرى, على غرار ما تشهده الضفة من تكاثر وتعدد المجموعات العسكرية.

القيادة اليمنية المتطرفة في اسرائيل تعاند وتكابر وتحاول أن تدغدغ مشاعر الإسرائيليين انها قادرة على تعلن "محو الارهاب " من الضفة الغربية وتعلن كل يوم عن خطط استعراضية من حيث زيادة قوات الاحتلال او شرعنة المزيد من البؤر الاستيطانية او فرض اغلاق كامل على مدن الضفة.

هذه لغة المفلسين الذين فقدوا كل الخيارات لمواجهة شعب خرج عن الطوق, ولم يعد هناك مجال لدولة الاحتلال ان تسجل نصرا على شعب بأكمله.

وقد حاول الاحتلال الإسرائيلي, من جهة ثانية, امتصاص عناصر التصعيد في الضفة الغربية، من خلال بعض الاغراءات والتسهيلات الاقتصادية، والسماح لمزيد من أبناء الضفة الغربية بالعمل في فلسطين المحتلة 1948, غير أن ذلك لم يعد ينطلي على أحد خاصة بعد أن بان الوجه القبيح للاحتلال وسقط قناعه الذي كان يحاول به ان يجمل صورته لدى الرأي العام.

تبلور صورة المقاومة

رغم هذا العدد الكبير من الضحايا في صفوف الفلسطينيين ورغم كل ما يتعرضون له كل يومن لأصناف وانواع من المعاناة والالم , الا أنهم يخرجون من بين الركام ومن تحت الرماد, ويعيدون تشكيل صورتهم من جديد. فالمقاومة اليوم لم تعد شيئا طارئا بقدر ما هي ثقافة متجذرة وسلوك يومي ونهج راسخ , كما أنها اصبحت الامل الوحيد في مواجهة الصف الاحتلال واللغة الوحيدة في ردع جرائمه.

اليوم, المقاومة تتشكل بأشكال مختلفة , فهي تارة كتائب وتارة مجموعات وتارة على شكل افراد , لكنها تجد حاضنة شعبية واسعة في الضفة الغربية توفر لها كل اشكال الدعم والاسناد.

ان هنالك الكثير مما تحتاجه المقاومة في الضفة الغربية , خاصة ترتيب وتنظيم صفوفها وتعزيز الحماية الامنية للمقاومين ورسم نهج اكثر ايلاما للاحتلال وأشد تأثيرا عليه وافقاده زمام المبادرة , وفي نفس الوقت ردع كل المحاولات التي تحاول احتواء رجال المقاومة او شرائهم أو التأثير عليهم.

المعركة مع الاحتلال ستكون قاسية ومؤلمة وطويلة, وهذا يستلزم من كل القوى الفلسطينية أن تتوحد في ترسيخ نهج وطريق المقاومة بحيث تستمر على قوتها وصلابتها وقدرتها على التأثير على مجريات الامور.

السلطة... مأزق لا مخرج منه

السلطة تجد نفسها في مأزق كبير امام شعبها وأمام المحافل الاقليمية والدولية, وهي غير قادرة على تفكيك هذه المعادلة المعقدة.

يجمع الكثير من المحللين والسياسيين على ان السلطة تمر في اضعف حالاتها وأنها لم تعد قادرة على ان تمثل الشعب او حمايته من تغول الاحتلال والمستوطنين, ولا تملك سوى التهديد بالذهاب للامم المتحدة او مجلس الامن او محكمة الجنايات الدولية , وهي كل اوراق ساقطة لا جدوى من ورائها.

اقرأ أيضاً: اتفاق "السعودية - إيران".. رسالة إلى واشنطن وإنذار لـ"إسرائيل"

هناك استياء شعبي كبير , حتى من ابناء حركة فتح التي تشكل العمود الفقري للسلطة, وهناك سخط عارم على سياستها تجاه ما يجري وعجزها عن القيام ولو بشيء بسيط لوقف الجرائم الإسرائيلية , فضلا عن تماديها في التواصل مع دولة الاحتلال وحضورها قمة العقبة ومواجهتها للمقاومين واعتقالهم والتضييق عليهم.

اسرائيل تضغط على السلطة للقيام بواجباتها الامنية وتهددها بسحب امتيازاتها الاقتصادية, والمجتمع الدولي يريد من السلطة ان تمارس دورها في امتصاص حالة الغضب الفلسطيني ومنع العمليات الفدائية دون ان تقدم لها في المقابل شيئا سوى التعهدات الكاذبة والوعود الحالمة.

ان السلطة فقدت مصداقيتها وفقدت الكثير من مبرر وجودها –السياسي والوطني – ولم تعد تمثل له هذا الامل الذي كان يحلم به البعض ان ينتقل من مربع السلطة الى مربع الدولة.

الفلسطيني يقاتل لوحده

قدر الفلسطينيين ان يحملوا جرحهم وشهداءهم وان يقاتلوا عن هويتهم ومستقبلهم لوحدهم, وان يستمروا في مسيرتهم التي امتدت ل 75 عاما , وان يتحملوا تخاذل الاقربين والجيران وممن عرفوا انفسه انهم عرب ومسلمون .

اليوم انكشف الغبار وبان هؤلاء الذين يبحثون عن متعة زائلة وهمية وعار غير مبرر في التطبيع مع دولة قامت على الاجرام والقتل, ومع صخب الدماء والقتل في الضفة الغربية لا يستحون ان يتكلموا ان اتصالات مع الاحتلال بحجة "مساعدة الفلسطينيين والتخفيف من معاناتهم".

ان المعركة مع الاحتلال ستكون شرسة وقاسية ومؤلمة, وستدفع فيها اثمان باهظة, لكن الفلسطينيين الذين تمرسوا على القتال وتشربوا المقاومة ونهلوا من منابع الكرامة ودفعوا من دمهم واجسادهم وبيوتهم لن يكون مالهم الا الى نصر حقيقي وان طال الزمن, اما الاحتلال القائم على باطل فهو بلا شك الى زوال.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo