الغلاء يستنزف رواتب موظفي غزة بدون تعويض

الاسواق الشعبية
الاسواق الشعبية

مع بداية كل شهر، ينتظر موظفو السلطات الفلسطينية في غزة إعلان وزارتي المالية موعد صرف رواتبهم، ويتابعون تلك الأخبار بمزيج من القلق والتمني، الأولى خوفاً من خصومات جديدة، والثانية أملاً في رفع نسبة الرواتب، لكن هذه المشاعر تصطدم كل مرة بنفس قيمة الراتب التي لم تعد تغطي نفقات أسرهم في ظل الارتفاع الكبير على أسعار السلع الغذائية الأساسية.

وبات التضخم في أسعار السلع، وسط ثبات رواتب العاملين في السلك الحكومي، حديث سكان غزة الذي لا يفارق مجالسهم، وسط غياب الحلول وعجز السلطة الفلسطينية واللجنة الحكومية في غزة عن إضافة أي زيادة على أجور الموظفين، نتيجة الأزمات المالية التي تعيشها الحكومتين.

عدم كفاية الراتب لنفقاتهم الشهرية وتسجيلهم لعجز شهري بشكل مستمر

ويشتكي سكان غزة، وبالتحديد الموظفون، من عدم كفاية الراتب لنفقاتهم الشهرية وتسجيلهم لعجز شهري بشكل مستمر، خاصة في ظل غلاء الأسعار الفاحش الذي لا يتوقف عن إنهاك جيوبهم في مصاريف أساسية.

مصاريف طائلة وعجز شهري مرحل

خليل الشرافي هو موظف حكومي يعمل في سلك التعليم منذ ثماني سنوات، يتقاضى راتباً قيمته 1800 شيكل، يقول "منذ تعييني وأنا أستلم نفس الأجر، لم يطرأ عليه أي زيادة مطلقاً، ولا يغطي نفقات أسرتي، بل أعاني من أجل توفر متطلبات الأكل والشرب ومستلزمات الأطفال".

يتخوف الشرافي من ارتفاع ثمن السلع الأساسية، فيضيف "منذ انتشار كورونا تغيرت الأسعار بشكل جنوني وكل يوم ترتفع أكثر، وهذا شكل عجزا ماليا كبيرا في ظل ثبات الراتب، الجميع متخوف من انخفاض قيمة الأجور في ظل الأزمات المالية التي تعيشها الحكومات".

"كنا نشتري لتر زيت الطهي بحوالي 6 شيكل، لكن اليوم سعره 10، أما الأرز كان بـ4 شيكل واليوم 7، والعدس ارتفع من 4 إلى 8، والبيض بات 15 شيكل بدل 10، في ظل هذه الأسعار ماذا يكفي الراتب؟"، يقول الشرافي الذي يحاول أن يوضح أن هناك غلاء معيشيا وسط ثبات قيمة الأجور.

في الواقع، تغيرت أسعار السلع الغذائية الأساسية في غزة ثلاث مرات في عام 2022 وحده، وتضخم سعرها بحوالي 3.16% مقارنة مع عام 2021، وذلك تأثراً بالأزمة العالمية وارتفاع الأسعار في الدول المصدرة فضلاً عن زيادة ثمن الشحن والتوريد، إلى جانب زيادة قيمة الضرائب والرسوم التي تجبيها حكومة غزة.

يراوغ الشرافي ارتفاع أسعار السلع في شراء بضائع العروض، علّه يوفر جزء بسيطا من مصاريفه، كما أنه يحاول أن يستبدل بعض المواد الغذائية بأخرى، من أجل توفير بعض من المال، لدفعه في نفقات إلزامية.

يستعرض الرجل مصاريفه الشهرية بأنه يدفع أقساط شقته 500 شيكل، ويلحق بها الكهرباء والانترنت والغاز 220 شيكل، ثم يرفع 200 شيكل مواصلات له ولأسرته، و150 أخرى مصروف لصغاره، ويكلفه منزله في التسوق الأسبوعي 500 شيكل، ومائدة أيام الجمعة 200 شيكل، أما الاحتياجات من البقالة تزيد عن 500 شيكل، وهذا مجموعه 2270 شيكل، أي أن لديه عجزا قدره 470 شيكل كل شهر.

ويعقب الشرافي على هذه المصاريف "كانت الرواتب تكفي، لكن منذ عام 2020، بتنا كل شهر نسجل عجزا ونرحله إلى الشهر التالي، لكن دون حلول في الأفق".

راتب فعلي لكنه منكمش القيمة الشرائية

في علوم الاقتصاد، انكمش راتب الشرافي وأمثاله من الموظفين نحو 33 في المئة، يقول الباحث في الشؤون الاقتصادية مازن العجلة إن "ثبات راتب الموظف الحكومي لا يعني أنه يتمتع به بشكل حقيقي، إذ مع بلوغ معدل التضخم في الأسعار أكثر من 3%، يكون تآكل الراتب بنحو 33%، بمعنى آخر أن أجر الموظف كان يكفيه في ظل ثبات الأسعار، لكن مع ارتفاعها بات لا يكفي، وهذا يعني أن الراتب انخفضت قيمته الشرائية وليس الفعلية".

ومع تزايد شكاوى الموظفين من عدم كفاية الراتب لنفقاتهم الشهرية وسط غلاء الأسعار، تستعرض "زوايا" واقع الموظفين الحكوميين في غزة وحقوقهم التي كفلها القانون، ونسبة التضخم على أسعار السلع، والحلول المقترحة للخروج من انفجار محتمل.

الموظفون وفاتورة الرواتب

أي تراجع يطرأ على أجورهم سيؤدي إلى انهيار البنى الاقتصادية وتوقف قطاع الأعمال

تنقسم فرص العمل في غزة إلى أربعة أنواع، الموظفون التابعون للسلطة الفلسطينية، وموظفو حكومة غزة، والعاملون في القطاع الخاص، والعمال المهنيون، وتعد رواتبهم المحرك الأول للأسواق، يقول الباحث الاقتصادي مازن العجلة لـ"زوايا": "إن أي تراجع يطرأ على أجورهم سيؤدي إلى انهيار البنى الاقتصادية وتوقف قطاع الأعمال، ويدفع إلى انفجار السكان وهذا احتمال وارد".

ويتلقى موظفو السلطة الفلسطينية في غزة منذ عام 2017، نحو 80% من قيمة رواتبهم الأساسية، وترجع وزارة المالية في رام الله السبب وراء ذلك إلى اقتطاع الاحتلال الإسرائيلي جزء من أموال المقاصة التي تجبيها، وإلى تراجع المساهمات المالية التي تدفعها الدول المانحة.

ويعمل مع السلطة الفلسطينية في غزة نحو 72 ألف موظف (بينهم متقاعدين وعسكريين)، وتبلغ فاتورة رواتبهم نحو 60 مليون دولار شهرياً، وهو ما يعد أقوى مصدر للاقتصاد في القطاع، وتمثل رواتبهم نحو 60% من حجم السيولة في الأسواق المحلية، بحسب تقديرات العجلة.

فيما تدفع حكومة غزة منذ عام 2013، ما بين 50 إلى 60% من قيمة رواتب موظفيها، البالغ عددهم قرابة 50 ألفاً (الشقان المدني والعسكري) حسب بيانات عام 2015، وتبلغ فاتورة رواتبهم الشهرية نحو 32 مليون دولار، وتشكل أجورهم نحو 20% من حجم السيولة في القطاع، وفق تقديرات الاقتصاديين.

أما القطاع الخاص والعمال، فظروفهم صعبة للغاية، إذ لا يتلقون رواتب منتظمة، ويحصلون على أجر يومي متوسطه 32 شيكل، وهذا لا يمكنه أن يحرك الاقتصاد، يوضح العجلة أن هذه الفئة الأكثر تأثراً من تضخم الأسعار.

يعقب العجلة على فواتير الرواتب قائلاً: "جميع هذه الأموال التي تضخ لا تكفي لمواجهة التضخم، بل تعد رواتب الموظفين والعمال منخفضة وفي تراجع مستمر، ولا تتناسب مع الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية الأساسية".

بيانات التضخم في غزة

في الحقيقة، كان وقع الأزمة الاقتصادية العالمية كبيراً على قطاع غزة، وتسبب في ارتفاع جنوني لأسعار جميع السلع حتى تلك التي تنتج أو تزرع محلياً، وبحسب بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني فإن أسعار الخضروات الطازجة ارتفعت بنسبة 18%، والدجاج الطازج بنسبة 7%، أما الفواكه بنسبة 11%، فيما ارتفع البيض بمقدار 26%، والخبز بقيمة 14%، والطحين بنسبة 12%.

وتشير بيانات جهاز الإحصاء إلى أن السلة الغذائية تعد أهم ما يحتاجه المستهلك، ووحدها ارتفعت بنسبة 6% خلال عام 2022 في قطاع غزة.

وفي عموم فلسطين فإن نسبة غلاء المعيشة منذ العام 1996 وحتى العام 2022 ارتفعت حوالي 114%، أي بزيادة مقدارها 1,136 شيقل لكل 1,000 شيقل من الأجر الشهري.

يشرح العجلة بأن ذلك يعني ثباتا في الأجور النقدية، وتراجعا في قيمتها الحقيقية وقوتها الشرائية، مشيراً إلى أن غلاء المعيشة وتضخم الأسعار تسبب في زيادة معدلات الفقر.

مراوغة التضخم في تسهيلات

في الواقع، حاولت نقابة الموظفين في غزة العمل مع الجهات الحكومية لرفع قيمة الأجور، يقول مسؤولها خليل الزيان إنهم يرفضون أي خصومات على رواتب الموظفين وفي نفس الوقت يقدرون الأزمات المالية التي تعيشها الجهات الحكومية.

ويضيف لزوايا "من الطبيعي تنفيذ فعاليات إذا جرى خصم على الموظفين، لكن الآن نراوغ ارتفاع الأسعار، وطرحنا على الجهات الحكومية مقترحات لعلاج الأزمة، ونجحنا في بعض التسهيلات".

ويوضح الزيان أنهم يحاولون تخفيف وقع ارتفاع الأسعار من خلال توفير باصات تنقل الموظفين لأماكن عملهم وهذا شأنه أن يوفر عليهم تكاليف المواصلات ويضيفوها إلى مستلزمات إجبارية أخرى.

الجبايات سبب… لكن ما الحلول؟

ويلفت الاقتصادي مازن العجلة إلى أن الأسعار في العالم انخفضت نسبياً، لكن في غزة لم يطرأ عليها تغيير وذلك نتيجة زيادة الجبايات وفرض الضرائب التي تقرها حكومة غزة، وهذا يحمل على المستهلك ويتسبب في تضخم نفقاته.

في عام 2022، رفعت حكومة غزة الجبايات على البضائع الواردة إلى القطاع أكثر من مرة، فيما فرضت ضرائب جديدة عن طريق المجلس التشريعي، في محاولة لمعالجة الأزمة المالية التي تعيشها وهو ما سبب خوف عند الموظفين حول إمكانية المزيد من الخصومات على رواتبهم.

حول ذلك يقول رئيس المكتب الإعلامى الحكومي سلامة معروف إنهم يراغون أزمة مالية ويحاول استمرار دفع رواتب الموظفين بنفس الآلية المتبعة، ومن أجل ذلك طبقوا خطة تقشف في جميع النفقات الحكومية خاصة التشغيلية للوزارات.

ويضيف لزوايا "تعتمد الجهات الحكومية في غزة في نفقاتها على الجبايات التي تحصلها من التبادل التجاري مع مصر، والجمارك والضرائب التي تجبيها من البضائع الواردة للقطاع عبر معبر كرم أبو سالم التجاري، وانخفضت قيمة تلك الإيرادات خلال العام الماضي في محاولة الحفاظ على استقرار أسعار السلع العام الماضي".

ويتابع "عملنا وفق القانون على فرض ضرائب من أجل مصلحة الموظفين وعدم إجراء أي خصومات عنهم، وذلك في إطار محاولة الخروج من الأزمة بأقل وقت".

ومن جانبه، يوضح العجلة أنه بحسب قانون الوظيفة العمومية، فإنه يتوجب على السلطة الفلسطينية دفع علاوة غلاء معيشة تقدر بقيمة 1.25%، وبالفعل تدفعها، بينما حكومة غزة لا تلتزم بذلك، مؤكداً أن ما تدفعه السلطة من علاوة غلاء المعيشة لا يغطي التراجع الحقيقي في الدخل خاصة مع ارتفاع التضخم المستمر.

أما حول عدم دفع علاوة غلاء المعيشة، يقول معروف "نسعى لتطبيق القانون الوظيفي بشكل مستمر، وفي حال تحسنت ظروف الجهات الحكومية سنضيف جميع العلاوات بما فيها غلاء المعيشة لكن ذلك بحاجة إلى وقت".

وبالنسبة إلى الحلول لأزمة تضخم المصاريف، يطرح العجلة، أن يحصل الموظفون على رواتبهم كاملة مع جميع العلاوات، وبالتالي من الممكن أن يساهم ذلك في تخفيف وقع تضخم النفقات، وإلى جانب ذلك اعتماد قانون التجارة العالمية بأن يتم تخفيض حجم الضرائب، من أجل خفض أسعار السلع، وهو ما يترتب عليه تراجعا في تضخم النفقات.

لكن هذه الحلول، قد تعجز عنها السلطة الفلسطينية التي تعاني من خصم الاحتلال الإسرائيلي على أموال المقاصة، كما قد لا تستطيع حكومة غزة تطبيقها كونها تعاني من أزمة مالية وتراجع في إيراداتها، بحسب ما أعلن مكتب الإعلام الحكومي فيها.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo