انقسام حاد تجاه التحول السياسي في إسرائيل

بن غفير
بن غفير

منذ مشاورات تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو، بدأت الاتفاقات بين التيار اليمينى المتطرف، والذى يحظى باثنين وثلاثين مقعدا فى الكنيست (البرلمان) مع حزب الليكود وله نفس عدد المقاعد، ليكون للائتلاف الجديد أغلبية من 64 مقعدا من إجمالى 120 مقعدا، وقد بدأ إرساء خطط التغيير الأساسى فى عدة مؤسسات ووزارات بما يخدم طرفى التحالف، إرضاء لليمين الدينى المتطرف بإعطائه صلاحيات واسعة فى عدة مجالات حيوية، وإرضاء رئيس الوزراء نتنياهو والاتهامات التى يحاكم عليها بتغيير النظام القضائى ونزع الكثير من صلاحياته، لصالح الكنيست ولصالح السلطة التنفيذية والقوى السياسية.

وقد أدى ذلك إلى انقسام حاد بين القيادات والهيئات والرأى العام والمعارضين لهذه التغييرات، وما يرونه فيها من مخاطر على الحياة الديمقراطية والفصل بين السلطات، بل على إسرائيل نفسها. وأدى ذلك إلى تدخل رئيس الدولة إسحق هيرتسوج وإعلانه أنه يركز جهوده على تحركين حاسمين يتحمل مسئوليتهما، أولهما تجنب أزمة دستورية غير مسبوقة فى تاريخ إسرائيل، وثانيهما وقف الانقسام داخل إسرائيل، لأن الخلاف العميق يمزق الدولة إلى أشلاء، وهو ما يقلقه كما يقلق الكثيرين فى جميع أنحاء إسرائيل وفى الشتات (اليهود فى الدول الأخرى).

إن الإيقاع السريع والمكثف الذى اتبعته الحكومة اليمينية المتطرفة وأدى إلى الانقسام الداخلى الحاد وحالة من القلق الشديد لدى رئيس الدولة وعديد من القيادات والهيئات الإسرائيلية، والفلسطينية، والولايات المتحدة الأمريكية، نتج عن عدة إجراءات فى عدة مجالات متوازية، من بينها قيام وزير الأمن اليمينى المتطرف إيتمار بن جفير بزيارة باحة المسجد الأقصى بحراسة جنود إسرائيليين، رغم كل التحذيرات الأمنية الإسرائيلية من تداعياتها وما تمثله من استفزاز للمسلمين، ولم يعبأ الوزير بذلك وأعلن أنه سيكرر الزيارة ليثبت لحماس أن هذه ليست أرضهم.

كما أثارت خطة وزير القضاء ياريف ليفين لإحداث تغييرات جذرية فى جهاز القضاء تقلص صلاحيات المحكمة العليا، والتحكم فى تعيينات القضاة، وزيادة تدخل السياسيين فى أعمالها. وتتضمن الخطة ما يسمى «بند التغلب» الذى يسمح لأعضاء الكنيست بتجاوز قرارات المحكمة العليا، بل وإلغاء قرارات سابقة بالتصويت بأغلبية بسيطة استنادا إلى أن أعضاء الكنيست يمثلون الأغلبية وليس المحكمة. وتغيير لجنة اختيار القضاة بتمثيل متساو للسلطتين التشريعية والتنفيذية فى اللجنة، وإضافة المزيد من السياسيين المعينين من قبل وزير القضاء إليها. وإلغاء حجة عدم المعقولية، وهى أداة تخول للمحكمة العليا إلغاء أمر إدارى اتخذته الحكومة بسبب «عدم معقوليته».

وقد انتقدت رئيسة المحكمة العليا إيستر حايوت خطة وزير القضاء بشدة، ووصفتها بأنها عمليا خطة انقلابية تهدف إلى تقويض جهاز القضاء وإضعافه، وبث الرعب فى نفوس القضاة حتى لا يحكموا بالعدل، ووصفتها أيضا بأنها هجوم عنيف على نظام العدالة وكأنه عدو يجب مهاجمته وإخضاعه، وتعرض الهوية الديمقراطية للبلاد لضربة قاضية، ولاستقلال القضاء وتحويله إلى سلطة صامتة. وأن الديمقراطية ليست فقط للأغلبية وإنما ضمان حقوق الأقلية وإشراكها فى الشئون الداخلية الأساسية.

اقرأ أيضاً: تصدير الغاز لأوروبا تجارة واعدة وخطرة بين القاهرة وتل أبيب

وفى محاولة لتخفيف حدة المواجهة والانقسام بين المحكمة العليا ووزير القضاء، دعا بينى جانتس، وزير الدفاع السابق ورئيس قائمة «المعسكر الوطنى»، رئيس الوزراء نتنياهو إلى تشكيل لجنة مكونة من مندوبى أحزاب فى الائتلاف الحاكم والمعارضة، لإقرار التغييرات فى الجهاز القضائى نظرا لما تنطوى عليه من تغيير لنظام الحكم فى إسرائيل وستتحول إلى ديمقراطية جوفاء، وأنه يمكن الاتفاق على بند التغلب بأن يكون استخدامه فى حالات معينة بأغلبية خاصة فى الكنيست وليس بالأغلبية البسيطة كما فى المشروع، ويمكن تغيير طريقة تعيين القضاة دون منح أغلبية للسياسيين. وقد انتقد المعارضون لخطة التغيير فى القضاء موقف جانتس واتهموه بأنه يسعى للتوافق مع نتنياهو لفتح مجال للتعاون معه مستقبلا. كما انتقد الخطة قيادات من حزب شاس واعتبروا أنها تدفع القضاء إلى التشدد فى الحكم بشأن الاعتراض المقدم للمحكمة بعدم جواز تولى زعيم الحزب أرييه درعى منصبا وزاريا للحكم عليه فى تهم سابقة بالتهرب من الضرائب. وقد حكمت المحكمة العليا فعلا بعدم جواز تعيينه وضرورة إقالته وتعيين بديل له، وهو ما يضع حكومة نتنياهو فى مأزق كبير دعا أنصاره إلى إعلان تحدى المحكمة والاستمرار فى خطة إصلاح القضاء.

كما انتقد رئيس أركان الجيش الإسرائيلى أفيف كوخافى، قبل انتهاء ولايته بيوم فى 15 يناير 2023، قرار الحكومة نقل مسئوليات وصلاحيات من الجيش إلى رئيس حزب الصهيونية الدينية سموتريتش، المعين وزيرا إضافيا فى وزارة الدفاع ومسئولا عن وحدتين تعملان مع الفلسطينيين هما «الإدارة المدنية» ومنسق أعمال الحكومة الإسرائيلية فى الضفة الغربية، وقرار نقل صلاحيات قوات حرس الحدود فى الضفة الغربية إلى وزير الأمن القومى إيتمار بن جفير. وأشار كوخافى إلى إخفاقه فى إقناع نتنياهو برفض هذه التغييرات قبل تشكيل الحكومة، ولكنه لم يتراجع عنها. ووصف كوخافى نقل هذه الصلاحيات بأنه «غير معقول، وغير مقبول»، ورفض بشكل قاطع أن يخضع أى ضابط لمسئولين خارج الجيش الإسرائيلى. كما تحفظ على قرارات الحكومة بخصم أموال من المستحقات المالية للسلطة الفلسطينية، وأن السلطة الفلسطينية لديها أجهزة أمن عسكرية تقوم بمهام كبيرة لإحباط الإرهاب، والحفاظ على القانون والنظام فى مناطق «أ» وقسم كبير من مناطق «ب» فى الضفة الغربية، وفى غياب التعاون وعمل هذه القوات الفلسطينية، يتحمل الجيش الإسرائيلى المسئولية كل الوقت ويتعين أن يوجد فى مراكز المدن الرئيسية، ويضطر إلى الدفع بعدد قوات أكبر من الكتائب الاحتياطية والنظامية لهذه المهمات، وأن الجيش لم يستعد لذلك.

وتعد هذه هى المرة الأولى التى يوجه فيها رئيس أركان الجيش الإسرائيلى انتقادات إلى الحكومة، وهى غير مسبوقة بين القيادتين السياسية والعسكرية، وذلك لأن إسرائيل تعتمد بصورة أساسية على المؤسسة العسكرية، ودائما ثمة تداخل بينها والعمل السياسى بناء على نظام الخدمة العسكرية فى إسرائيل واعتماده بدرجة كبيرة على نظام الاحتياطى. كما أن المؤسسة العسكرية اكتسبت طوال سنوات احتلالها للأراضى الفلسطينية خبرات فى التعامل مع السلطة والقيادات الفلسطينية والاستفادة بما يخدمها من بقايا اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين. لذا، يرى رئيس أركان الجيش الإسرائيلى، وأكد أن معه جميع أعضاء رئاسة الأركان العامة ومن بينهم رئيس الأركان الجديد هيرتسى هليفى، أن قرارات الحكومة بداية انعطاف فى نظام الحكم فى إسرائيل ويمكن أن تكون لها تبعات كثيرة.

من ناحية أخرى، قررت الحكومة الإسرائيلية فرض عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية، عقابا لها على نشاطها القانونى والسياسى الدولى ضد إسرائيل، وخاصة توجهها إلى محكمة العدل الدولية لطلب الرأى الاستشارى بشأن الاحتلال الإسرائيلى. وتشمل هذه العقوبات حجز إسرائيل حوالى 40 مليون دولار أمريكى من أموال الضرائب والجمارك التى تحصلها قوات الاحتلال الإسرائيلى نيابة عن السلطة الفلسطينية، بدعوى أن هذا المبلغ المستقطع مقابل ما تصرفه السلطة الفلسطينية لأسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين فى عام 2022، وتجميد خطط البناء الفلسطينية فى المنطقة «ج» لأنها مازالت تحت السيطرة الإسرائيلية، وسحب منافع شخصية كبيرة ممن يقودون الصراع القانونى السياسى ضد إسرائيل، واتخاذ إجراءات ضد منظمات فى الضفة الغربية بدعوى قيامها بعمليات إرهابية، أو أى عمل معاد لإسرائيل، ومن ضمنها أعمال قضائية وسياسية تحت غطاء أنشطة إنسانية.

وقد أكد الرئيس محمود عباس أن من حق السلطة الفلسطينية اللجوء إلى المجتمع الدولى والمنظمات الدولية، وأنهم سيستمرون فى الانضمام إلى المنظمات والهيئات الدولية، وأنهم يرفضون سياسة الحكومة الإسرائيلية سواء باقتحام باحة المسجد الأقصى، أو العقوبات التى فرضتها على السلطة الفلسطينية بكل صورها، أو التوسع فى المستوطنات، وتنفيذ عمليات الاقتحامات والقتل العمد للفلسطينيين. كما أثار رئيس الوزراء محمد اشتيه كل ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة والذى يقضى على حل إقامة الدولتين، وينتهك كل القوانين الدولية وقانون حقوق الإنسان، مع المبعوث الأمريكى هادى عمرو لدى زيارته لكل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل تمهيدا لزيارة مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان لإسرائيل والسلطة الفلسطينية ما بين 18 ــ 20 يناير ٢٠٢٣ حيث التقى مع رئيس إسرائيل ورئيس الوزراء وزعيم المعارضة لابيد ووزير الخارجية كوهين وبحث معهم عدة قضايا من بينها مطالبة إسرائيل بالتهدئة وعدم التصعيد وأن حكومته متمسكة بحل الدولتين، ثم التقى مع الرئيس محمود عباس فى رام الله وطلب منه التهدئة، وطالبه محمود عباس بأن تنفذ واشنطن وعودها بفتح القنصلية الأمريكية فى القدس الشرقية وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، ومطالبة إسرائيل بالكف عن تجاوزاتها غير المقبولة.

وقد قامت مظاهرات إسرائيلية كبيرة فى تل أبيب والقدس ومدن أخرى وقدرت الشرطة الإسرائيلية المشاركين فيها بنحو 87 ألف متظاهر من بينهم رؤساء حكومات سابقين ووزراء دفاع ورؤساء أركان الجيش الإسرائيليين السابقين، وأعرب المتظاهرون عن رفضهم سياسة الحكومة الإسرائيلية، وطالب البعض باستقالتها وتشكيل حكومة جديدة. وأكدت الشخصيات العامة فى هذه المظاهرات أنها مجرد بداية ستتكرر حتى يتم وقف سياسات الحكومة أو إقالتها.

اقرأ أيضاً: الاقتطاعاتُ الإسرائيلية.. كيف ستؤثرُ على الفلسطينيين وما سبل المواجهة؟

وكان رد فعل رئيس الوزراء نتنياهو فيه كثير من التحدى بقوله أن حكومته منتخبة وتمثل الأغلبية ومن حقها وضع السياسات المناسبة، ولم يظهر أى بادرة لمراجعة هذه السياسات، على الأقل فى الوقت الراهن، لارتباطه بالتزامات موقعة مع الأحزاب المؤتلفة فى حكومته من التيار اليمينى المتطرف والذى يدفع بقوة نحو هذا التحول فى السياسة الإسرائيلية.

ولم يقتصر رد الفعل تجاه سياسة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة على الداخل الإسرائيلى والسلطة الفلسطينية، وإنما شمل روسيا حيث رفض نائب مندوبها الدائم فى الأمم المتحدة باسم حكومته اقتحام بن جفير باحة المسجد الأقصى واعتبر ذلك تصرفا يثير الحفيظة. وأعلن نائب المندوبة الدائمة الأمريكية فى الأمم المتحدة دعم الرئيس بايدن الوضع التاريخى الراهن فى الأماكن المقدسة، خاصة حرم المسجد الأقصى. ودعا وزير الخارجية الأمريكى جميع الأطراف إلى ضبط النفس والامتناع عن الأعمال والخطابات الاستفزازية. وسبق أن حذر البيت الأبيض الأمريكى من أى عمل أحادى فى المواقع المقدسة فى القدس الشرقية وأنه أمر غير مقبول.

وعلى المستوى العربى، عقدت قمة مصرية أردنية فلسطينية فى القاهرة يوم 17 يناير 2023، وأكد الرؤساء الثلاثة ضرورة تحقيق السلام الشامل وحل الدولتين، وضرورة توفير المجتمع الدولى الحماية للشعب الفلسطينى، وحذروا من خطورة الإجراءات الأحادية التى تقوض حل الدولتين، وضرورة الحفاظ على الوضع التاريخى للقدس، وخطورة ما تتخذه إسرائيل من مصادرة الأراضى الفلسطينية، وبناء المستوطنات، وهدم المنازل، وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم، والاقتحامات الإسرائيلية المتواصلة للمدن الفلسطينية، وانتهاك الوضع القانونى القائم فى القدس ومقدساتها، والتأكيد على ضرورة توحيد الصف الفلسطينى، وإنهاء الانقسام، ودعم استمرار تقديم الأونروا خدماتها للشعب الفلسطينى.

ويلاحظ اختلاف دوافع ردود الأفعال تجاه التحول السياسى اليمينى المتطرف فى إسرائيل. داخليا، تخشى المعارضة الإسرائيلية من أن تفقد إسرائيل تضامن أصدقائها معها وتخسر ما تحقق من تطبيع مع دول عربية، وأن تصبح دولة سلطوية عنصرية استعمارية لا تقبل لها مظلومية. أما الفلسطينيون، فيرون فى هذا التحول السياسى الإسرائيلى تصفية للقضية الفلسطينية واستحالة إقامة دولتهم. وترى واشنطن أن هذا التحول فى السياسة الإسرائيلية يجعلها غير قادرة على الدفاع المعتاد عن التطبيع بين إسرائيل ودول عربية ودمجها فى منطقة الشرق الأوسط، كما يضع عليها ضغوطا للقيام بتحرك فعال لكبح جماح اليمين الإسرائيلى المتطرف من ناحية، وأن تنشط فى إدارة الأزمة والعمل على العودة لمسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وحل الدولتين لامتصاص غضب الرأى العام العربى وعدم رضا الدول العربية على المستوى الرسمى، والتجاوب مع بعض مطالب المعارضة الإسرائيلية واللوبى اليهودى الأمريكى.

ويبقى السؤال، هل يمكن وقف هذا التحول السياسى الخطير فى إسرائيل، أم أنه بداية مرحلة جديدة فى الصراع العربى الإسرائيلى؟ ستجيب المرحلة القادمة عن هذا السؤال.

المصدر : الشروق المصرية
atyaf logo