أربعة عقود فى معتقل صهيونى

الاسر المحرر كريم يونس
الاسر المحرر كريم يونس

كنت أدقق بتركيز شديد على ملامح وجهه، التى ظهرت لأقل من دقيقتين على الشاشة، فى كل مرة أذاع التليفزيون فيها خبر الإفراج عنه، وكيف أراد سجانوه الصهاينة أن يحرموه ويحرموا أهله وشعبه من زهوة استقباله، فأخذوه من محبسه فى سيارة مغلقة وأنزلوه فى موقف حافلات عمومى، فى منطقة رعنانا بالداخل المحتل، فنزل وأخذ ينظر حواليه، ومن فورهم، تعرف عليه مجموعة عمال فلسطينيين كانوا متوجهين لأعمالهم، وعانقوه واتصلوا بأهله ليذهب إلى قريته «عارة»، التى تقع فى المثلث الشمالى من فلسطين المحتلة، فيستقبل بما يليق ببطل وبابن غاب عن أهله أربعة عقود.. أى أربعين سنة، حيث اعتقل فى 6 يناير 1983 وأفرج عنه فى 5 يناير 2023.

دققت بتركيز لأحاول أن أحس بما وراء الملامح.. الشعر القصير الأبيض، والجبين العريض ما بين الحاجبين، وبين منابت شعر الرأس، الحاجبين شبه المتلاشيين، أو أن شعرهما خفيف وتساقط، والعينيين اللتين لم يخفِ الحزن والأسى حدتهما وكأنهما عينا قناص محترف، ومثلث الأنف والفم، والذقن الحليق ذى النسب المحكمة!.

اقرأ أيضاً: "معهد ماس": سياسة الحكومة المالية لا تلبي احتياجات الفئات المهشمة

حاولت، وقد عرفت- عبر اللمحة التى عشتها فى السجن- ماذا يختبئ خلف السطح.. وهى لمحة لأنها حوالى سنة قياسًا على أربعين سنة قضاها كريم يوسف فضل يونس فى معتقلات الاحتلال العنصرى الاستيطانى الإرهابى الصهيونى.. وتساءلت: هل تراه قد اعتاد ستر مشاعره وطمس ردود فعله وىمواراة عواطفه حتى لا يقرأها أحد، ممن أسروه واعتقلوه واستجوبوه ومارسوا معه كل ألوان وتفانين التعامل مع الأسرى المعتقلين فبدت ملامحه حزينة وفقط؟.

ترى هل راودته مناقشة داخلية عميقة بينه وبين عقله ووجدانه، تساءل فيها عن جدوى تضحيته وصلابته وصموده وقد اعتقد أن النصر آتٍ والوحدة الوطنية صلبة لا تتفتت والمناضلين على قلب رجل واحد من أجل فلسطين حرة موحدة، من نهرها إلى بحرها، أو على الأقل فى مساحتها التى احتلت عام 1967، وإذا به يخرج بعد الأربعين عامًا ليجد الأمور كما هى أو أسوأ؟!.

ثم ترى ماذا هو الكلام الذى لم ينطق به عندما أجاب عن سؤال سألوه له فى مدخل قريته: ما الرسالة التى تحملها من الأسرى الفلسطينيين إلى الشعب الفلسطينى والسلطة؟!

كان يتحرك وقد وضعوا الشال الفلسطينى على كتفيه، وأحاطوه بأذرعهم، بل ورفعوه على أكتافهم، ولكن حركته كانت بطيئة متئدة، إلى أن وصل لمرقد أبويه ونزل على ركبته ووضع رأسه بين يديه ملاصقًا لشاهد القبر، ترى ماذا مر فى الشريط أمام عينيه وهو يقرأ الفاتحة، حيث تتجلى قدرات الذهن البشرى فى استرجاع ما يريد استرجاعه بالصوت والصورة والحركة والمشاعر الجوانية فى أقل من لحظة؟ هل شاهد نفسه طفلًا يحبو ويحتويه حضنهما؟ وهل شاهدهما يغمسان الخبز الساخن فى الزيت والزعتر ويتناولان الشاى بالمريمية؟ وهل وهل إلى آخر التفاصيل الميكروسكوبية؟ وهل عاهدهما مجددًا، وبماذا عاهدهما؟!.

وُلد كريم فى 24 ديسمبر 1956، وأتم دراسته الجامعية فى جامعة بن جوريون فى القدس، وتخصص فى العلوم السياسية وحصل على البكالوريوس والماجستير، وانضم منذ شبابه المبكر لحركة فتح، ووصل إلى عضوية لجنتها المركزية، واعتُقل بتهمة حيازة أسلحة محظورة وتهريبها للمقاومة الفلسطينية، والانتماء لمنظمة محظورة وحكم عليه أولًا بالإعدام، ثم استقر الحكم بالمؤبد لفترة مفتوحة، حددت بعد ذلك بأربعين عامًا، ولأنه من حملة الجنسية الإسرائيلية فلم تشمله أى صفقة لتبادل الأسرى بين الجانبين، وأودع سجن النقب الصحراوى، وظلت والدته تنتظر الإفراج عنه طيلة الأربعين عامًا، إلا أنها توفيت قبل أن يتم الإفراج عنه بثلاثة أشهر!.

وكما استدعت ملامحه التدقيق والتركيز، فإن الأربعين سنة تستوجب التدقيق والتركيز أيضًا لنحاول الإجابة عن سؤال بسيط يمزق أحشاء البعض، وأنا منهم: ما الذى تكفل بأن يجعل أجهزتنا الذهنية والعصبية الشعورية واللاشعورية ويجعل وجداننا ومشاعرنا التى كانت يومًا جمرًا متوهجًا لا يخبو.. جعلها كلها مبلطة سميكة خالية من الحياة.. والحياء؟!.

المصدر : المصري اليوم

مواضيع ذات صلة

atyaf logo