<!-- Google Tag Manager --> <script>(function(w,d,s,l,i){w[l]=w[l]||[];w[l].push({'gtm.start': new Date().getTime(),event:'gtm.js'});var f=d.getElementsByTagName(s)[0], j=d.createElement(s),dl=l!='dataLayer'?'&l='+l:'';j.async=true;j.src= 'https://www.googletagmanager.com/gtm.js?id='+i+dl;f.parentNode.insertBefore(j,f); })(window,document,'script','dataLayer','GTM-TPKQ4F92');</script> <!-- End Google Tag Manager -->

هذه البلاد تحب أهلها الأموات

تسمية شوارع فلسطينية
تسمية شوارع فلسطينية

يذكر الصديق الشاعر خالد جمعة أن الأستاذ الموسيقى الفنان ياسر عمر قد وضع له صورة هو والشاعر عثمان حسين في أحد المدارس كتكريم لهما ولاعتبارهم من رموز المدينة المبدعين في الكتابة والشعر والثقافة، لكن الأستاذ قد تعرض لسؤال من أحد زملائه قال فيه باستغراب واضح أن هؤلاء المعلقة صورهم ما زالوا على قيد الحياة!

لقد اعتاد الأستاذ واعتدنا جميعًا على تكريم من رحلوا، حتى صار هذا الفعل عرفًا لا يمكن الخروج عنه، ومن يفعل ذلك يلقى استغرابًا على أقل تقدير، هذه قصة صغيرة لكنها مليئة بالتفاصيل الحزينة التي تلخص المشهد الفلسطيني بل والعربي بصورة كبيرة، إذ لا يلقى الشخص المبدع ما يستحق من تكريم إلا بعد وفاته، أما وهو حي فيتعرض إلى التجاهل الجاهل الذي لا يعي قيمة الأشياء من حول إلا بعد فقدانها، وهذا ما لخصه جبران خليل جبران عندما قال:" وردة واحدة لإنسان على قيد الحياة أفضل من باقة كاملة على قبره.

أليست هذه الطريقة المتبعة في تخليد الأسماء الكبيرة أمر يستحق إعادة النظر حتى ولو كان القصد التخليد والتقدير، فإنه من باب أولى أن يتم ذلك التقدير في حياة الشخص كي يكون لتقدير قيمته الإنسانية الحسية بصورة أكثر عمقًا، وأكثر تأثير.

عام 1949 أصدر الكاتب المصري الكبير يوسف السبيعي روايته التي تحمل اسم أرض النفاق، وقام بإهدائها إلى نفسه، ربما كان الرجل أكثر فطنة من الجميع، فقرر أن يكرم نفسه في حياته بصورة مغايرة، وكأنها صرخة اعتراض على الأسلوب الدارج إلى الآن في تكريم الأسماء المتوفاة، واغفال الأسماء التي ما زالت تبدع وتحتاج إلى هذه اللفتات التي لها عظيم التأثير في استمرار المبدع وتفوقه.

أعلم تمامًا أهمية تخليد أسماء وسيرة العظماء والمبدعين في شتى المجالات ليمثلوا النموذج المقتدى الذي ينظر إليه الأجيال بكل فخر وتبجيل، وهناك آلاف الأسماء التي تستحق ذلك، لكن أليس من حق المبدع أن يرى ويشعر بقيمته وأن يقدر ويكرم وهو على قدي الحياة؟

اقرأ أيضاً: "التكييش" يدهم المجتمع الغزي.. هل التدخل الحكومي كاف؟

لماذا كل شوارعنا ومياديننا ومدارسنا ومشافينا كلها تحمل أسماء موتى، فلا تكاد تمر على مكان سواء حكومي أو أهلي إلا ويحمل معه تفاصيل الموت والغياب، ألهذه الدرجة أصبحنا مأسورين بسيرة الرحيل، أوليس هؤلاء عاشوا وناضلوا من أجل الحياة والخير والجمال، وإننا بتسمية كل ما يخص حياتنا بأسماء الموتى هو جزء من الارتداد إلى الماضي مهما كان شكله وسيرته التي ليست بالضرورة ملزمة لمن يعيشون الحاضر ومن يتطلعون إلى المستقبل الجديد.

إن أسماء الأشياء جزء أصيل من تكوينها الذهني لدى الجماهير، لهذا وجب على الإدارات المحلية والبلديات تغيير النهج المتبع في إطلاق الأسماء على الشوارع والميادين والأماكن العامة بحيث تطلق عليها أسماء تأخذ من الطبيعة والأحياء أسماء لها، فليس بالضرورة أن يكون المشفى على اسم فقيد أو شهيد أو بطل قومي، فربما لو حمل الاسم صفة إنسانية تدعو إلى التفائل لكان أفضل، أو تحمل اسمًا لمبدع ما زال على قيد الحياة، وهكذا بالقياس على كل تفاصيل الحياة في يومنا المُعاش

إن ثقافة تكريم المبدعين بعد موتهم تنم عن فكرة الكمال بعد الموت، وإننا نلتفت إلى تكريم الشخص بعد موته لاعتقادنا أن الإنسان الغائب قد وصل إلى مرحلة التجاوز التي بموجبها يصبح في مكانة عالية لا يتساوى فيها مع من بقى على قيد الحياة، حتى أننا نأخذ كلام وإرث الغائب على أنها حِكم صحيحة نرددها في الكثير من المناسبات، ولم يكن ليحصل ذلك لو كان صاحبها على قيد الحياة، وكم من حكمة وإبداع يفعله صحابه وهو على قيد الحياة فلا يلتفت إليه أحد.

يجب علينا أن نتحرر من فكرة تخليد الموت والغياب ونعترف أننا أبناء الحياة ما دمنا فيها، وأن نشكل بإرثنا وحاضرنا مجالاً حيويًا للمستقبل والحياة، وأن نظهر ونعمل على ذلك بقلب منشرح وفهم جديد متطور، وليس في ذلك عيب أو انتقاص من مبدع قد غاب لأن المبدع الحقيقي تتخلد ذاته من خلال ما قدم لحياة القادمين ومستقبلهم، لهذا علينا أن نمتلك الجرأة وأن نعلوا على الخلافات والاختلافات وأن نعلي شأن المبدعين في شتى المجالات وأن نستحضرهم في حياتهم لنراكم على الفعل والابداع من أجل خلق القدوة الحية المستمرة التي تأخذ الفكرة والكلمة من فم صاحبها ومن خبرته الحية وتحاوره وتستفيد من تجاربه لتتشارك الأجيال كلها في صناعة المستقبل الذي يجب أن يُحمل بالحياة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo