متى تركب رام الله رأسها؟!

دوار المنارة برام الله
دوار المنارة برام الله

يَختصرُ الناس في غزة الضفة الغربية في مدينة رام الله، والعكس عندما يُختصر قطاع غزة بمدينة غزة، وفي هذا ظلم للجغرافيا ولعادات المُدن والقرى الأخرى ولحزنهم أيضًا ومعاناتهم.

تجولتُ في مُدن الضفة الغربية، أخذتُ نصيبي من هواء البلاد ووجوه أهلها وصورهم وما زدتُ إلا عطشا، إن السحر في تلك الجغرافيا لم ألمسه في مكان آخر، ربما هي صدمة الاكتشاف الأوّل للجبال والشوارع التي تُشَق من لحمها رغمًا عنها، والتلال العالية التي تجلس فوق قممها المنازل بكل أبهة وجمال تلفها أشجار الزيتون من كل صوب واتجاه، كأنها الحارسة والمحروسة في آنٍ معًا، هذا المنظر ألفتهُ العين، وهناك منظر آخر شوّش الصورة وخطف بريقها من العين، تلال أخرى مُحتلة بمنازل المستوطنين التي تلفها الأسلاك الشائكة، وهناك فرق كبير بين منازل تُحاط بأشجار الزيتون ومنازل تُسيج بالأسلاك الشائكة.

اقرأ ايضاً: خبير مصري: موقف "لابيد" من حل الدولتين فرصة

أثناء تجولي بين القرى المتناثرة في ربوع البلاد عرفت معنى الاستيطان على حقيقته وشعرت بكلمات النشيد الذي كنا نسمعه ونحن صغار "الاستيطان في بلدي سرطان ينهش في جسدي" هذا التشبيه ربما هو أبلغ ما قيل في موضوع الاستيطان الذي ينتشر في أرجاء الضفة الغربية حتى تحوّل البناء الاستيطاني إلى مدن تحيط بالقرى الفلسطينية مما قلب الآية وحول التواجد الفلسطيني إلى ما يشبه الاستيطان بفعل تمدد البناء الاسرائيلي وعدم ردعه بطرق جادة لإيقافه، فالأراضي في الضفة الغربية مفتوحة ووعرة ومن الصعب على سكان القرى هناك التعامل مع الاستيطان بجهد ذاتي في ظل تواجد عسكري إسرائيلي يحمي ويدعم عملية الاستيطان لأنهم محاصرين داخل قراهم التي لا يتعدى سكانها بضعة آلاف ويحتاجون إلى عبور عدة حواجز للخروج من القرية إلى فضاء المدينة الواسع المُتحَكم في وسعه من خلال حاجز أكثر حداثة.

لقد ارتكن الاحتلال إلى طريقة التقسيم التي جربها في قطاع غزة ومدن الضفة الغربية والداخل في مرات متعددة، فهو الآن يضع بوابات حديدية وكاميرات مراقبة على مداخل كل قرية بدون تواجد دائم لقواته العسكرية، ومتى أراد يقوم بإغلاق هذه البوابات بشكل سريع كنوع من العقاب الجماعي على فعل مقاوم أو عمل استدعى غضب المستوطنين، أو رغبة في محاصرة الذاكرة، هذا الفعل عمل على حصار الجسد الفلسطيني ومنعه من الاتصال مع كامل جغرافيا الضفة الغربية، وعمل أيضًا على تعميق الهجرة الداخلية بسبب صعوبة التواصل والسفر الداخلي، لهذا لجأ العديد من سكان القرى إلى الإقامة المؤقتة في شقق سكنية مؤجرة داخل مدينة رام الله وغيرها من المدن الفلسطينية لصعوبة العودة إلى القرى بعد انتهاء العمل اليومي وأصبح الناس يكتفون بالرجوع إلى القرى في الإجازة الأسبوعية متحملين عناء الطريق والحواجز.

اقرأ أيضاً: "الأعياد اليهودية".. فرصة "جماعات الهيكل" لتغيير الأمر الواقع في المسجد الأقصى

إن إسرائيل بهذا التصرف تعمل بطريقة غير مباشرة على هدر الوقت الفلسطيني وبالتالي تأخير أي عملية نمو اقتصادي داخل القرى الفلسطينية المحاصرة، عوضًا على افراغها من الكادر القادر على تطوير هذه القرى لصالح العمل داخل المدينة (رام الله) التي لا تشبه شقيقاتها في الضفة الغربية وهنا أصبح لدينا ما يشبه المدينة المركزية التي لا يمكن لها أن تكون عاصمة تحت أي ظرف كان، لأنها بجغرافيتها ترفض ذلك، فهي قرية جميلة آسرة ومتنوعة المزاجات ذات شوارع صغيرة وضيقة تصلح للتسكع والسياحة والسهر حتى آخر الليل كما هي الآن، لكنها مدينة عنيدة جدًا تستطيع أن تضرب رأسها في الصخر لتطلب الماء، هو فعل انتحاري أن تضرب رأسك في الصخر لتطلب الماء، لكن رام الله تستطيع فعل ذلك متى ركبت رأسها واستقام الجبين على طريق السابقين، فلا توجد مدينة فلسطينية يمكن لها أن تكون العاصمة إلا القدس، وبعدها يمكن لنا أن نعفيها من لِزوجة السياسة ونفتح شبابيك أسرارها للشعراء ونسمي بعدها أي قرية فلسطينية عاصمة.

لكل ما سبق ولكلام آخر كتب وغيره لم يكتب بعد، يجب إعادة الاعتبار لتواجد القرية في الحالة السياسية الفلسطينية بعيدًا عن مركزية المدن التي لا تستقيم وحالة الصراع اليومي مع المحتل على الأرض والأشجار والصخور والهوية، هذا هو الصراع الحقيقي الذي يجب على الفلسطيني المسؤول أينما كان موقعه أن يدعم في اتجاهه ويعزز من مقاومة فعل الاستيطان الذي يسرق الأرض وما عليها، كي لا نستفيق بعد سنوات قليلة على بيوت فلسطينية مُسيجة بالأسلاك الشائكة ومدن إسرائيلية محاطة بأشجار الزيتون!

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo