لا بواكي في الغرب للفلسطينيين

فلسطيني في مواجهة مستوطن إسرائيلي
فلسطيني في مواجهة مستوطن إسرائيلي

من المفارقات التي لا تزال تثير استهجاني، وربما عدم قدرتي على الفهم: كيف استطاعت الحضارة الغربية المعاصرة أن تجمع بين نقيضين يقف كل منهما على أبعد مسافة من الآخر؟!

فمن جهة لا يمكن لعاقل أن يتنكر لجمال بعض وجوه الحضارة المعاصرة، ليس فقط فيما يتعلق بالتكنولوجيا المبهرة التي غيرت شكل العالم، وربطت أقصاه بأقصاه، بطريقة لم يكن العقل البشري ليتخيلها في لحظة زمنية ما، حتى أن كل أنفاسنا المعاصرة لا يمكنها إلا وأن تمر عبر إحدى مخرجات هذه الحضارة، فالغذاء، والدواء، والكساء، والذهاب، والإياب، وكل ما في الحياة اليومية المعاصرة هو من صنع هذه الحضارة، حتى أنك لا تستطيع أن تتخيل الدنيا دون منتجيها.

لكن ليست التكنولوجيا- التي تكاد تخترق السماء- هي وحدها مفخرة الحضارة الغربية المعاصرة، بل في عالم القيم أيضاً، فحقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية، واستقلال القضاء، وقدرة الشعوب على مراقبة ومحاسبة حكامها، والمساواة أمام القانون، وحقوق الطفل والمرأة، وسيادة القانون، والنظام، والنظافة، والإقدام والجرأة في البحث العلمي بكل توجهاته، وأنواعه، ولو أردنا أن نواصل سرد ما أتت به الحضارة المعاصرة في عالم القيم فسنحتاح إلى مجلدات لا يتسع لها المقام هنا، وكلها نعترف بها، وبجمالها، وبرقيها، حتى لو لم نستطع تقبل بعض تفاصيلها التي نراها غير منسجمة مع سياقنا الثقافي، والحضاري، لكننا لا نستطيع إلا أن نعترف لها بالسبق، والرقي، خاصة إذا ما قارنّا واقع الشعوب التي تنعم بتلك الحضارة، وواقع شعوبنا نحن، الذين لا زلنا نواصل العيش على أمجاد تاريخنا، ولا نستطيع مغادرة أحداثه، وأدواته، حتى تلك التي فرضتها اللحظات الزمنية الموغلة في القدم، ولم تكن مقدسة يوم إنتاجها، لكننا نقدسها، ونطيل الوقوف عندها، ونخشى من مجرد التفكير في تجاوزها.

في مقابل هذا الجمال والرقي الحضاري، هناك جهة مظلمة، قاتمة شديدة التوحش، تشعرك وأنك أمام مخلوق منفصم الشخصية، فهو جميل وأخلاقي ومتحضر في إحدى وجوهه، لكنه قبيح، وعديم الأخلاق، وأشبه بوحوش الغابات في الجانب الآخر، خاصة إن كان الحديث يدور عمن لا يشبهه، أو لا ينتمي إلى عرقه، أو إن كانت هناك مصلحة لرأس المال في سحقه، فهو لن يتردد، ولن يفكر طويلاً في مقولاته الأخلاقية عن حقوق الإنسان، وقداسة النفس البشرية، وحق الناس في تقرير مصيرهم.

اقرأ أيضاً: الطائرات المُسيرة.. كابوس "إسرائيل" القادم

الشواهد على هذا الجانب المظلم في الحضارة الغربية أكثر من أن تحصى، سأذكر منها على سبيل المثال- لا الحصر- نصاً واحداً لأحد جنرالات الحرب في أمريكيا، أثناء قيامهم بإبادة الشعوب الأصلية هناك:

"لقد أنزل الرب في قلوب الهنود رعباً شديداً، فحاولوا أن يطيروا بين أسلحتنا، ويقفزوا في اللهب الذي التهم كثيراً منهم، كان الرب يضحك من أعدائه، وأعداء شعبه المختار، يضحك حتى الاستهزاء والاحتقار، ويجعل منهم وقوداً لهذا الفرن الذي تحولت إليه قريتهم، هكذا ينتقم الرب منهم، ويملأ الأرض بجثثهم، ويعطينا أرضهم"
هذا مجرد نص من نصوص كثيرة قدمت أسوأ أنواع التبرير، وأكثرها وحشية، جلها اعتبر أن إبادة تلك الشعوب كان مقدمة ضرورية لحضارة الرجل الأبيض، ذي العيون الزرق..!

في أوروبا عهد النازية أقدم النازيون على محاولة إبادة اليهود، ومسحهم عن وجه الأرض، ولو قُدّر للنازية أن تنتصر لصار الحديث اليوم عن الهولوكوست كأحد أهم المنجزات الحضارية للعرق الأبيض..!

حتى ما بعد النازية، انظروا كيف طبب الغرب المجروح من فعلته الشنيعة باليهود، لقد عالج جريمته في الهولوكوست اليهودي بهولوكوست آخر بحق الفلسطينيين، حينما اصطف خلف فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في أرض يسكنها شعب آخر منذ آلاف السنين، وكان الأولى أن يقتطع لليهود أرضاً أوروبية ليقيموا عليها دولتهم، ليعوضهم عن جريمته في حقهم، لكن هذا الغرب الحضاري المدافع عن حقوق الإنسان طبب جريمته بدعمه لجريمة أخرى، وحينها لم يذرف الدموع حزناً على قوافل الفقراء النازحين من الفلسطينيين، وهم مطرودين أمام ناظره، بل ربما رآه ضرورة للتكفير عن جريمته بحق اليهود، كما رأى الرجل الأبيض في أمريكيا- التي تتربع على رأس الحضارة الغربية المعاصرة- إبادة السكان الأصليين هناك ضرورة لبناء الحضارة..!

لم يكف الغرب المتباكي على جريمته في الهولوكوست اليهودي عن دعم وتأييد الهولوكوست الفلسطيني، بل الأدهى أنه صار ينظر إلى الضحية الفلسطيني المطرود من أرضه كإرهابي، أو ربما مخلوق أقل درجة من الإنسان، ليس من الضرورة أن تلتفت لآلامه، طالما أنك تطبب جرحاً أنت من فتحه، وليس الضحية الجديدة لضحيتك القديمة.

اقرأ أيضاً: سحب الجواز الدبلوماسي ورقة يستخدمها الرئيس عباس لتكبيل معارضيه

لم تكف الحضارة الغربية المعاصرة عن افتعال الحروب إن كان في ذلك مصلحة لرأس مالها، ولم تلتفت لحجم الدماء التي ترافق حروبها، والتي ستجد في كل مرة عنواناً حضارياً لها تبرر بواسطته عدوانها، حتى يبدو وكأنها تمارس الرحمة أثناء ممارستها لأبشع أنواع القتل، حتى لو ثبت فيما بعد خطأ تقديراتها التي بسببها شنت حروباً، وقتلت مئات الآلاف من البشر، كما حدث مع العراق الذي اعترفت أمريكيا أن تقديرات استخباراتها حول أسلحة الدمار الشامل هي من خدعتها، لكن ما الضير، فالمقتول لا ينتمي إلى العرق الأبيض أزرق العينين، ومجرد الاعتذار له ليس ضرورياً، فأنصاف البشر لا يستحقون الاعتذار، ناهيك عن التعويض..!

الأمثلة كثيرة، ومؤلمة، وجارحة لقيم الحضارة التي نعترف بها للغرب، والتي تناقضها من كل الوجوه، لكن مؤخراً قفزت إلى السطح حرب روسيا وأوكرانيا، تلك الحرب التي نتمنى ألا تفضي إلى مأساة للشعب الأوكراني كمأساتنا نحن الفلسطينيين، فنحن نحب كل شعوب الأرض، وكمجروحين، ومجربين لكارثة اللجوء نتذرع إلى الله ألا يبتلي بها أحداً من شعوب الأرض، لكن ما لا نستطيع تفهمه، ولا نجده مقبولاً، ولا منسجماً مع قيم الحضارة المعاصرة هي هذه الإزدواجية التي يتعامل بها الغرب مع قضايا الشعوب، فنحن وإن كنا نتفهم هذا التعاطف الغربي الكبير مع مأساة الأوكرانيين، بل ونشاركهم هذا التعاطف، فإننا نطالبهم بألا يتعاملوا مع القضايا المتشابهة بمعايير مختلفة، لمجرد الاختلاف في اللون، أو العرق، أو الدين.

نحن أيضاً محتلون، ولاجئون، ومشتتون، وممزقون، ونعاني ويلات الفقر، والجوع، وفقدان الطمأنينة بسبب الاحتلال، وبسبب التهجير، وبسبب رفض طفلتكم المدللة إسرائيل بالاعتراف لنا بأي من حقوقنا، حتى تلك التي اعترف لنا بها العالم إسرائيل لا زالت تتحداها، دون أن تتعرض لأي ضغط حقيقي من طرفكم، بل إلى دعمكم، واحتضانكم، فكيف سنؤمن بعدالتكم، وكيف سنؤمن بأخلاقية حضارتكم.

المطلوب هو العدالة، والعدالة فقط، بأن تنظروا إلى الآخرين بذات العين، وألا تسمحوا لاختلاف اللون والعرق بأن يحول بينكم وبين رؤية المشهد على حقيقته، ومن كل جوانبه، عندها فقط سنشعر بعدالتكم، ونطمئن لنزاهة معاييركم.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo