بين الاستفادة والحذر

الموقف الروسي والصيني من تداعيات حرب غزة

اثار القصف الاسرائيلي على قطاع غزة
اثار القصف الاسرائيلي على قطاع غزة

المواقف الدولية المتباينة إزاء الحرب على غزة ظلت محكومة بنظرية التوازن والمحاور بالنسبة للقوي الكبرى، فيما بدا انه عودة الى صراع تاريخي اكبر واوسع وجد في ميدان الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية عاملا للظهور مجددا، وعادت معه مفاهيم الجنوب والشمال والمركز والأطراف، والتي رافقت الحرب الباردة وشكل فرصة للعديد من هذه القوي لاستعادة دورها ونفوذها في الشرق الأوسط مستفيدة من انحياز القوي الغربية خاصة الأمريكي لكيان الاحتلال والخلل الأخلاقي الذى نجم عن التأييد المطلق لما يجري من عدوان على غزة دون اعتبارات إنسانية او قانونية، حيث تلقفت روسيا والصين اللتان تسعيان الى لعب دور مركزي في المنطقة بما يمكنها من تشكل نظام دولي جديد متعدد الاطراف لطاما سعت صوبه روسيا على وجه التحديد لاسقاط الهيمنة الامريكية من خلال العمل على تظهير الانحياز الغربي والذى يتناقض مع المصالح الإقليمية للعالمين العربي والإسلامي، وفشل السياسات الامريكية في إيجاد تسوية لهذا الصراع الممتد وتحويل الانتباه بعيدا عن الحرب الأوكرانية.

روسيا ... والمعظلة الامريكية

مع اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر وبعد ثلاثة أيام كانت روسيا سباقة الى الإعلان ان ما يجري من صراع هو تجسيد لفشل السياسات الأمريكية في الشرق الاوسط كما اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطالبا بوقف هذه الحرب لكن هذا التصريح فتح جبهة اخري وصفها الكثيرين بانها محاولة لاستغلال هذه المواجهة دون ان يرقي الى مستوي التأثير .

مغادرة المواقف الحذره الى الانخراط في هذه المواجهة عبر السياسات كانت اهدافها واضحة منذ البداية حيث قال المستشار السابق في الكرملين سيرجي ماركوف ان روسيا تدرك أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدعمان إسرائيل بشكل كامل، لكنهما يجسدان الشر الآن ولا يمكن أن يكونا على حق بأي شكل من الأشكال". مضيفا أن روسيا تعتبر أزمة غزة فرصة لتعزز نفوذها في الشرق الأوسط من خلال تصوير نفسها كصانع سلام محتمل له علاقات مع جميع الأطراف.

العدوان على غزة كان بمثابة فرصة مواتية من حيث التوقيت لروسيا كما يرى الكثير من الخبراء ارادت الاستفادة منه على صعيد الازمة الاكرانية حيث قال الدبلوماسي الروسي قنسطنطين غافريلوف "أعتقد أن هذه الأزمة ستؤثر بشكل مباشر على مجريات العملية العسكرية الخاصة (في أوكرانيا)"، مضيفا أن "رعاة أوكرانيا سيتشتت انتباههم بفعل الصراع في إسرائيل. وهذا لا يعني أن الغرب سيتخلى عن الأوكرانيين. لكن حجم المساعدات العسكرية سينخفض... ومسار العملية قد ينقلب سريعاً لصالح روسيا"

في السياق تقول المتخصصة في الشئون العربية بمركز الاهرام صافيناز أحمد يبدو من تفاعلات روسيا هنا أنها قد ركزت فقط على انتقاد الموقف الأمريكى الأوروبى، وعلى احتكاره لملف الصراع الإسرائيلى الفلسطينى منذ سنوات، لكنها فى الوقت نفسه لم تتخذ - حتى اللحظة – أى موقف "بارز" يؤشر على رغبتها فى لعب دور على خط الصراع من شأنه موازنة أو معادلة الدور الأمريكى الغربى، باستثناء مشروع القرار الذي قدمته لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية.

يقول الكاتب اياد الجعفراوي أن ـروسيا، التي اعتمدت سياسة التفاعل الحذر -مع إظهار ميل أكبر نسبياً للجانب الفلسطيني- حيال مجريات الحرب في غزة، منذ بداياتها، مع العمل على استغلالها دبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً، لتسجيل النقاط على الولايات المتحدة الأميركية والأوروبيين، ربما تكون قد تجاوزت هذه المرحلة، وقد تكون في طور تعزيز الجهود الإيرانية الرامية إلى خلق حالة ضغط متصاعدة على واشنطن، بغية دفع هذه الأخيرة لإيقاف عجلة الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة.

التحول الاوسع تمثل في استقبال روسيا لوفد من حركة حماس بقيادة موسى أبو مرزوق مع بداية هذه الحرب مما شكل انعطافة في مسار العلاقة مع تل ابيب التي ردت مباشرة في الاعلان عن استقبال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي رغم ان روسيا أعلنت ان اللقاء مع حماس كان يتعلق بالمختطفين الروس الا ان هذه الإشارة كانت بمثابة صقعة وهو ما فسر إسرائيليا على أنه دعم صريح للحركة في مواجهة كيان الاحتلال.

استخدام موسكو وبكين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار قدمته مالطا يدعو لهدن إنسانية في غزة ويدين حماس، بحجة أنه غير متوازن وطرح مشروع بديل يدعو لوقف النار بشكل فوري ودائم، كما تحدث مندوب روسيا بالأمم المتحدة قائلا "استمعنا لمزاعم بوجود مواقع لحماس بالمستشفيات والمساجد ولم نر أدلة حتى الآن". كان هو الإشارة الأكثر ازعاجا لتل ابيب .

تل ابيب لم تخفي استيائها من المواقف والتحركات الروسية المرافقة للعدوان على صعيد المجتمع الدولي خاصة الفيتو الروسي حيث أعلنت إسرائيل أن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، أعرب عن استيائه، خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من مواقف موسكو ضد تل أبيب في الأمم المتحدة، و"التعاون الخطير" بين روسيا وإيران وبحسب البيان، "تحدث نتنياهو، مع بوتين، حول الحرب مع حركة حماس، والوضع في المنطقة".

الصين ... الخروج من دبلوماسية الحياد

تعتبر الصين من أكثر القوى التي سعت للحفاظ على التوازن في علاقاتها الدولية خاصة تجاه إسرائيل واستخدمت دبلوماسية حيادية لكنها نشطة اعتبرها مراقبون انها من باب التمايز عن المواقف الامريكية والغربية المنخرطة في هذا الصراع وظل خطابها يجسد الحرص على فكرة ضبط النفس والسلام وحل الدولتين، لكنها خلال هذه المواجهة اظهرت بكين حزما سياسيا من خلال انتقاد السياسات الإسرائيلية في استهداف المدنيين وعدم الالتزام بقواعد القانون الدولي

حيث قال وزير خارجية الصين وانغ يي، إن وقف إطلاق النار وإيقاف الحرب هما على رأس الأولويات" في غزة التي تشهد قصفا إسرائيليا مكثفا منذ 7 أكتوبر الماضي. مشددا على أن "أي حل للأزمة الحالية في غزة لا يمكن أن يحيد عن حل الدولتين"، موضحا أن بكين ترى أن "جوهر الحل هو احترام حق فلسطين في إقامة دولة وتقرير المصير".

هذا الموقف ترجمه المبعوث الصيني للشرق الأوسط، تشاي جيون، خلال اتصال هاتفي مع مسؤولين فلسطينيين ومصريين، دعا فيه إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتقديم دعم إنساني للشعب الفلسطيني، مؤكدا إن الصين «ليست لديها مصالح أنانية بشأن القضية الفلسطينية، لكنها تقف دائماً إلى جانب السلام والإنصاف والعدالة، وأن بكين مستعدّة للعمل مع المجتمع الدولي لتعزيز السلام وتشجيع إجراء المحادثات

اعلان الصين استعدادها للعمل على الافراج عن الاسرى في غزة وإيجاد جل دائم للقضية الفلسطينية كان إشارة من بكين الى رغبتها في لعب دور في هذا الصراع قد يبدو من حيث العرض انه وساطة صينية، لكنه ابعد من ذلك بكثير حيث أعادت التأكيد على دعمها للقضية العادلة للشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه المشروعة. و رفض بكين التشريد أو التهجير القسري بحق المدنيين الفلسطينيين.

يقول الكاتب التركي عبدالله ألطاي أن موقف الصين بصرف النظر عن الرسائل التي تقدمها عبر القنوات الدبلوماسية، يجب تقييمه في سياق المنافسة مع الولايات المتحدة وحلفائها وليس في سياق "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، ومن خلال إعطاء الأولوية لمصالحها الوطنية، وعلى الرغم من أنها أظهرت موقفًا محايدًا في بداية الأزمة عبر استغرابها من هجمات 7 أكتوبر، إلا أن الصين اعتمدت في وقت لاحق استراتيجية تؤيد الفلسطينيين وتنتقد إسرائيل

الباحثة الأمريكية المتخصصة في السياسة الخارجية الصينية داون ميرفي، قالت ان الصين تقيم علاقات متوازنة نسبيا مع كل أطراف الصراع الراهن؛ ومن ثمّ يمكن النظر إلى بكين باعتبارها وسيطا مخلصا، وتحظى الصين بعلاقات إيجابية مع الفلسطينيين والعرب والأتراك والإيرانيين، فيما يري الباحث المتخصص في علاقات الصين والشرق الأوسط جوناثان فولتون، أن الصين لا تزال لاعباً ثانويا على ساحة سياسات الشرق الأوسط. وليست فاعلا جديّا في هذه القضية. ولا أحد يتوقع أن تُسهم الصين بالحلّ".

الصين التى نأت بنفسها عن ملف الصراع الفلسطيني طويلا حاولت منذ سنوات قليلة الدخول من بوابة التسوية عندما قررت تعين مبعوث لها لعملية السلام كما ان الموقف الفلسطيني الرسمي ذهب باتجاه دور فعال لها لكن لم يكن بمقدور الصين تجاوز اللاعبيين الاساسسين كالولايات المتخدة يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة «رنمين» الصينية في بكين شي ين هونغ، "ظلت سياسة بكين في الشرق الأوسط تعاني من الشلل، بسبب النزاع، لفترة من الوقت على الأقل"، مضيفاً أنه "بالنظر إلى أن الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بقوة، منخرطة في هذه الأزمة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، فمَن كان سيستمع إلى الصين؟".

تعزيز العلاقات والحلفاء

"الحرب الكاشفة" و"ملئ الفراغ" والعديد من المصطلحات والنظريات التي رافقت الحرب كانت تعبير عن التحولات التي أحدثها العدوان على غزة الذي خلق حالة من الاستقطاب وصدعا وان لم يكن بالكبير على صعيد العلاقات الدولية خاصة بين العرب والقوى الغربية من جهة والولايات المتحدة من جهة اخري دفع بالجميع الى تبني المواقف التي تسهم في تعزيز جبهته على الصعيد السياسي.

اختيار الصين لتكون هي المحطة الاولي عربيا - واسلاميا لبلورة موقف لانهاء هذا العدوان قراء فيه البعض انه رسالة واضحة على هذا التثقل والدور الذى تتمع فيه الصين حيث يرى عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية ومساعد وزير الخارجية الأسبق، السفير رخا أحمد حسن أن الصين تعتبر من الدول المؤيدة والداعمة لوقف إطلاق النار، وبالتالي لن تجد صعوبة في تنفيذ مهمتها بالعاصمة بكين، وبالتالي سيكون مهمًا في عمل اللجنة أن تتوجه إلى العواصم التي تملك تأثيرًا على تل أبيب

كما ان صدور بيان ثلاثي مشترك عن السعودية وإيران والصين يدعوا إلى "الوقف الفوري" للعمليات العسكرية في قطاع غزة أبدت هذه الدول الثلاث فيه قلقها "تجاه استمرار الأوضاع الجارية في قطاع غزة كتهديد للأمن والسلم في المنطقة وعلى الصعيد الدولي"، والدعوة لـ"إغاثة المدنيين بشكل مستدام، ومعارضة التهجير القسري للفلسطينيين" هذا البيان لا يشكل مجرد انسجام في المواقف بل يحمل في طياته مسار هذه العلاقة التي حرصت الصين على تعزيزها لتوسعة نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي .

في دراسة أعدها مركز الامارات للسياسات قال لأول مرة أظهرت الصين وروسيا تنسيقاً في المواقف بينهما إزاء الأزمة في غزة، ويمكن اعتبار هذا الموقف نقطة فارقة وبداية لمرحلة جديدة في سياسات الجانبين في المنطقة، حيث تحرص الصين على بناء جبهة موحدة مع روسيا عبر توحيد وجهات النظر مع موسكو بخصوص الحل المستقبلي للأزمة، لكنها أيضاً قد تنتج معسكراً موازناً للنفوذ الأمريكي في الإقليم على المدى البعيد، وتسعي الصين من خلال هذا الموقف الى تعزيز الوحدة الإقليمية علناً، وخاصة بين إيران ودول الخليج من خلال التأكيد على تبنيها موقفاً محايداً، تضع الصين ضغطاً على الموقف الأخلاقي للولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، وإضفاء شرعية على اقتراحها لتدويل القضية.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo