بين الدين والعلمانية

الدين والعلمانية
الدين والعلمانية

متعمداً لا أستخدم مصطلح العلمانية، ليس جبناً، ولا خوفاً من ردات فعل متطرفة شيطنت المصطلح، الذي بالفعل لا أراه شيطانياً، حتى وإن حمّله خصومه ما لا يحتمل، إنما لأن لي رأياً في تعريف العلمانية، والتي أظن أنني لست مختلفاً- في الجوهر- عمن يعرفها بالطريقة التي أتحفظ عليها، لأنني أظنهم لا يقصدون منها ما يحمله ظاهر التعريف، لكن لا بد من ضبط المصطلح، وإزالة اللبس الذي يساهم تعريفه المتداول في خلقه.

يُعرّفون العلمانية بأنها فصلٌ للدين عن الدولة، فهل العلمانية تعني بالضبط هذا التعريف تماماً؟

بالنسبة لي، لا.

كيف؟

إن الدين- كما أفهمه- ليس هو التشريع، فالتشريع جزءْ من التدين، أكثر من كونه جزءاً من الدين، وهذه المسألة ليست بالنسبة لي مجرد رأي، إنما أزعم أنني أجدها واضحة وضوح الشمس في القرآن الكريم.

يقول القرآن الكريم:

"إن الدين عند الله الإسلام"
" ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه"

واضح من النصين السابقين أن كلمة الدين- بمعنى الدين الإلهي- رديفة لكلمة الإسلام، فالدين هو الإسلام، ومن يبتغ غيره ديناً فلن يقبل منه، وهنا يبرز سؤالْ في غاية الأهمية، وفقاً لما قاله القرآن ذاته الذي نحت مصطلح الإسلام، والمسلمين.

والسؤال كالتالي:

لو كانت الشريعة هي الدين- أي الإسلام- قرآنياً، فهل يجوز أن نطلق مصطلح الإسلام على من جاء بشريعة غير التي جاء بها النبي محمد عليه السلام، الموصوف بأنه هو وحده نبي الإسلام؟

سأجيب هنا من داخل القرآن فقط، بوصفه المسئول- حصريا عن تحرير المصطلح الذي نحته بنفسه.

يقرر القرآن أن الأنبياء كلهم مسلمون، ثم يقرر أيضاً أن لكل منهم شرعته، ومنهاجه الخاص.

اقرأ أيضاً: رمزي رباح ممثل الجبهة الديمقراطية في اللجنة التنفيذية: نحذّر من مجلس وطني انتقالي بديل ونرفض المحاصصة

فعن إبراهيم عليه السلام، وبنيه، يقول القرآن:

"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"

لاحظوا: اصطفى لكم { الدين } فلا تموتن إلا وأنتم { مسلمون }

وعن عيسى عليه السلام يقول:
" إذ قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا به وأشهد بأنا مسلمون"

وعما جاء به موسى عليه السلام يقول القرآن على لسان فرعون:

" قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين"

لكن القرآن حينما يتحدث عن الشريعة يقول:

"ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"

فلو كانت الشرعة، أو الشريعة هي التي تستوجب مصطلح الإسلام، فكيف جاز أن تسمى الشرائع المختلفة بذات الاسم؟

إن سبب الاسم هو شيء آخر، وهو الذي قاله إبراهيم، ويعقوب عليهما السلام:" إن الله اصطفى لكم الدين" وهو الذي جعلهم كلهم مسلمين، بمعنى، أولاً: أن الإسلام ليس هو دين محمد وحسب، إنما دين كل الأنبياء، وثانياً: أن المشترك بينهم، والذي صاروا بسببه كلهم مسلمين ليست هي الشريعة، التي لم تكن واحدة، إنما جاء كل منهم بشريعته الخاصة، ويعني ثالثاً: أن الدين هو الذي يتصف بالخلود، والصلاح لكل مكان وزمان، بينما الشريعة بطبيعتها متحركة، ولا بد أن تكون متحركة، لأنها تنظم تفاصيل حياتية متحركة، بأدوات غير ثابتة، ولن تكون ثابتة، وكيف لها أن تكون ثابتة، وحياة الناس بطبيعتها متحركة؟ فالثابت فيها هو مقاصدها التي تنسجم مع الدين الثابت، وفي كل مرة، ومع كل عملية تجديد لوسائلها، وأدواتها كانت مسقوفة بالدين.

سيُقال هنا: ألا يعني هذا تعطيلاً للنصوص؟

بالطبع لا، فالنص الجزئي مسقوف بالكلي، وفي هذا السياق فإننا نحتمي دائماً بفعل عمر مع الغنائم، وعقوبة السرقة، وسهم المؤلفة قلوبهم، وفي عصرنا الحديث فإن هناك ما صار من أحكام الماضي، رغماً عن أنوفنا، فهل سنعود مثلاً إلى نظام العبودية كون القرآن لم ينطق صراحة بتحريم ظاهرة العبودية؟ وهل سنطلب الجزية ممن هم على غير ما جاء به محمد عليه السلام؟ وهل سنصر على كتابة الدَّين بشاهدين في عصر الإيزيلايف؟!
وغيرها من الأسئلة المعاصرة.

بالعودة إلى الدين- أو الإسلام- المشترك بين الأنبياء، فما هو هذا الذي جاؤوا به كلهم دون استثناء، وجعلهم جميعاً مسلمين؟

برأيي:

إن اكتشاف المشترك ببن كل الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم مسألة في غاية البساطة، فما من نبي، أو رسول إلا وقال لقومه:" يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" فعبادة الله الواحد الأحد هي دعوة كل الأنبياء عليهم السلام، وما من نبي واحد شذّ عن هذه القاعدة، فالإيمان بالله الواحد إذن هي واحدة من المشتركات التي جعلتهم كلهم مسلمين.

أما المشترك الثاني فهو الأخلاق، فكلهم عليهم السلام جاؤوا ليتمموا مكارم الأخلاق، ويحاربوا الانحرافات القيمية التي من شأنها تحطيم المجتمعات، والقضاء عليها، ويمكنك ببساطة أن تجد ذلك في توجيهات كل الأنبياء لأقوامهم، كمقاومة الظلم، والبغي، وتطفيف الميزان، وأكل مال اليتيم، والتكبر في الأرض، وانظر إن شئت إلى وصايا لقمان، وموسى، وعيسى، ولوط، وشعيب، وهود، وصالح، واقرأ آيات سورة الإسراء، وربما تحديداً الآيات " من 23 وحتى 38 ".

الإيمان بالله الواحد، والأخلاق هما مشترك الأنبياء، وهما ما استحقا جميعاً، هم وأتباعهم مصطلح مسلمين بسببه، وهذا هو الإسلام، أو الدين الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى:" ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه"

بالعودة إلى المقدمة:

الدين بهذا الوصف لا يمكن فصله عن الدولة، وأقصد هنا في شقه الأخلاقي، أما الإيمان بالله فلقد أعلن القرآن الكريم أكثر من مرة أنه اختياري، وليس من شأن الدولة، أو أي جهة أن تفرضه على أي جهة، أو أي فرد، بخلاف الأخلاق، والتي لم يقل القرآن الكريم أنها اختيارية، فالقرآن مثلاً لم يقل:" فمن شاء فليظلم، ومن شاء فليعدل، لا، فالعدل ليس اختياراً، والظلم ليس مسموحاً، لاحظوا: منح الله للناس حق الكفر، لكنه لم يمنحهم الحق في الظلم، فالأخلاق إذن ليست اختيارية، والحديث هنا عن أمهات الأخلاق، وليس عن بعض الشكليات التي تتبدل فيها المعايير بين زمن وآخر.

لا يمكن فصل الدولة إذن عن الأخلاق، فالدولة يجب أن تبنى على الأخلاق، ويجب أن تعمل على نشر الأخلاق، وتطبيقها، والأخلاق يجب أن تكون مرجعية عليا لقوانينها.

وفق هذا التعريف أسجل تحفظي على فكرة فصل الدين عن الدولة.

أما التشريع فشأن آخر، فالدنيا تشرع لها الدنيا تحت سقف الأخلاق العليا، أما التشريعات الدينية التعبدية فهي في الأصل تحت مبدأ الاختيار الذاتي" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".

العلمانية يجب ألا تسمح لرجال الدين بقيادة الدولة باسم الدين، وألا تسمح لهم احتكار التشريع باسم الله، إنما تشرع الدولة لدنياها وفقاً لاحتياجاتها الدنيوية، ووفقاً لمعايير الدنيا، بشرط واحد: ألا تتناقض مع الأخلاق الأساسية، كالعدل، والمساواة، والحرية، والكرامة الإنسانية، والمسئولية الفردية، ومنع العدوان، وحماية الضعيف، وكفالة اليتامى، والمساكين، وغيرها من الأخلاق التي صارت الآن مشتركاً إنسانياً، لسنا متفوقين فيها على غيرنا.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo