المصالحة بين الأمل والحقيقة

صور من لقاءات فتح وحماس بالقاهرة
صور من لقاءات فتح وحماس بالقاهرة

وفقاً لمشاهداتي الخاصة فإنني أكاد لا أجد اهتماماً شعبياً ذا شأن بخصوص ما يقال عن جولة جديدة للمصالحة في الجزائر، بخلاف مرات كثيرة سابقة كنت أنا شخصياً أحد الحالمين بتحقيق أي تقدم في هذا الملف المزعج، الذي ينغص بتبعاته حياة الفلسطينيين، وأنا لست أكثر من نموذج للمتابعين، والمهتمين، والمتضررين أيضاً من تبعات الانقسام، الذي بت أراه انفصالاً حقيقياً، أكثر من كونه مجرد انقسام، أو خلاف سياسي، يمكن له أن ينتهي ببعض تنازلات الأطراف، حيث بات لكل ناحية من نواحي الوطن مصالحها، وارتباطاتها، بل وطبقاتها، وفئات مستفيديها.

ربما يمكن تعليل حالة عدم التفاعل الشعبي مع الجولة المنتظرة بخيبات الأمل السابقة التي مُني بها الحالمون، فلطالما علّق الفلسطينيون أملاً على جولات المصالحة السابقة، لكنهم في كل مرة كانوا يصطدمون بالحقائق الكاشفة عن عدم جدّيّة كل ما يقال عن رغبة أطراف الانقسام بمصالحة حقيقية تجمع الفرقاء، ليس بالضرورة على برنامج سياسي موحد، وليس بالضرورة على حكومة وحدة وطنية كما يحلو لهم تسميتها، إنما على الأقل التوصل إلى آلية يتعايش بواسطتها المختلفون، دون أن يسقطوا خلافاتهم على جغرافيا الوطن، ونظامه السياسي، حيث في كل العالم هناك مختلفون، تعبر عنهم، وعن حجم اختلافاتهم أحزابهم المتعددة، والتي ما كان لها أن تتخلق، لولا أن الناس ليسوا مجتمعين على ذات البرامج، والسياسات، لكن في كل العالم- سوى من يشبهنا من أشقائنا العرب- يتنافس المختلفون داخل ذات النظام السياسي، ويديرون اختلافاتهم وفقاً لمعايير لا تصل بهم إلى حد تقسيم الأوطان، فالاختلاف بين الناس حقيقة، وواقعاً لا يمكن تجاهله، أو زعم عدم وجوده، لكن ليس كل اختلاف يجب أن ينتهي بانقسام، أو بانفصال كما في حالتنا الفلسطينية، إلا ربما في منطقتنا العربية، التي فشلت حتى اللحظة في تطوير نظام سياسي قادر على استيعاب المختلفين.

اقرأ أيضاً: تهدئة هشة في غزة وغياب أفق المصالحة والتسوية

في حالتنا الفلسطينية تتجاوز المسألة حدود ما يحدث في البلدان العربية، كما وتتجاوز حدود المصالح الناشئة عن الانقسام، بل وحتى الارتباطات، والتبعيات الإقليمية، والدولية، والتي تجعل حوارات المصالحة عملية ليست فلسطينية وحسب، إنما إقليمية، وربما دولية، بمعنى أن هناك من خارج فلسطين من نحتاج إلى موافقته على المصالحة، وهذا بالطبع ما تنكره كل الأطراف، لكنه في نفس الوقت مما تدلل عليه تفاصيل المشهد السياسي القائم هنا في فلسطين، لكن هناك- كما قلت قبل قليل- ما يتجاوز كل هذا، وبرأيي فإن هذا الذي يتجاوز كل هذا سيظل مانعاً من الموانع التي ستمنع نجاح كل جولات المصالحة، ليست المنتظرة في الجزائر وحسب، إنما ما يمكن لغير الجزائر أن تقترحه، أو ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

فيما يخص السلطة الفلسطينية، فإن قضية سلاح الفصائل معضلة لا يمكن أن تُسلم بوجودها، بل هي لا تستطيع أن تسلم بوجودها، ولا تستطيع تحمّل مسئوليتها، وفقاّ للأسس التي بُنيت عليها السلطة، أو التي خُلقت السلطة بناءً عليها، فالسلطة لم تقم بإرادة فلسطينية مجردة، إنما كتتيجة لاتفاقيات يعرفها الجميع، تجعل من التفاوض الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع، وتشترط أن تحافظ السلطة على الأمن، ومنع العنف ضد إسرائيل، وسواءً وافقنا على هذا الشرط، أو لم نوافق عليه، فإن هذا هو الواقع، إن السلطة لا تستطيع أن تتبنى رسمياً فكرة المقاومة المسلحة من جديد بشكل معلن، وإلا فإنها ستفقد الحاضنة الدولية الداعمة لوجودها، ونحن نرى كيف تفعل إسرائيل بأموال المقاصة بحجة رواتب الشهداء، والأسرى، فكيف لو تبنت السلطة فكرة المقاومة المسلحة علنياً، وحمّلت نفسها تبعات وجود جيوش مسلحة ترفع شعار تدمير إسرائيل خارج أجهزتها الرسمية؟ كما أن السلطة تعرف أن سلاحاً كهذا سيعني أنها لن تكون الحاكم الحقيقي على الأرض، فيما لو وافقت على إعادة احتضان غزة كما هي، بل وحتى لو ضمنت السلطة نجاح حركة فتح المكون الرئيسي للسلطة في أي انتخابات قادمة، فإنها لن تقبل أن تضم غزة لولايتها كما هي، وبكل ما فيها من سلاح، تعرف جيداً أنها لا تملك القدرة على ضبطه، ولا على جمعه إن أرادت، ولربما هذا ما يجعل بقاء غزة خارج ولايتها أقل ضرراً عليها أمام العالم، وأمام الجهات الراعية لوجودها، من قبول فكرة عودتها، دون التحكم بسلاحها.

قد يُنكر الناطقون الرسميون أن هذه هي المعضلة، لكني شخصياً أزعم أنها أم المعضلات، فالسلطة طوال الوقت كانت تتحدث عن سلاح واحد، وعن تمكينها من حكم غزة، كنتيجة لأي مصالحة ممكنة.

في مقابل موقف السلطة هذا، فإن حماس والفصائل المسلحة لن تقبل ولا بأي حال من الأحوال فكرة تسليم سلاحها، حتى لو لم يعد هذا السلاح قادراً على ممارسة المقاومة المبادرة، وفقاً لما يتم تسويقه تحت عنوان " تثبيت قواعد الاشتباك" والذي يعني بوضوح" هدوء مقابل هدوء" ليس هدوءاً في كل فلسطين، إنما هدوء داخل غزة، أو على غزة، مقايل هدوء من غزة، بأن تمنتنع إسرائيل عن مهاجمة غزة، مقابل امتناع غزة عن أي فعل مقاوم، وهذا- بزعمي- ما لا تريد إسرائيل أكثر منه، فهي بهذه المعادلة أخرجت غزة من معادلة الصراع على بقية فلسطين، فغزة لا تستطيع شن حرب بسبب الاستيطان، ولا رفض إسرائيل لتنفيذ استحقاقات المفاوضات، وفي المرة التي تدخلت فيها غزة لقضية بيوت المقدسيين، ردت إسرائيل بأقصى درجات العنف، وليس متوقعاً أن تستطيع غزة الدخول في حروب دورية، كلما أنشأت إسرائيل مستوطنة، أو اعتدت على بعض بيوت المقدسيين، أو عرب النقب، أو أي من القضايا خارج غزة، ولأن مقاومة غزة اختزلت في شكل المواجهة المباشرة" الحروب" التي تجلب ردات فعل إسرائيلية قاسية، فإن هذا يعني أن سلاح غزة لم يعد طليقاً، ولا قادراً، ولا حراً في اختيار الوقت الذي يناسبه للمقاومة، وهو باختصار صار سلاحاً لحماية غزة وحسب، غزة التي لا تريدها إسرائيل أصلاً، وليس لها فيها أطماع حقيقية.

اقرأ أيضاً: الوسطاء يفشلون في إنقاذ الأسير ناصر أبو حميد

برغم هذه الحقيقة التي تعني- كما قلت- أن فكرة المقاومة من غزة خارج غزة انتهت عملياً، إلا أن هذا لن يصل إلى حد قبول فكرة تسليم سلاح غزة للسلطة، وإلا فإن بعض الفصائل المالكة للسلاح سترى أنها بخطوة كهذه ستفقد مبرر وجودها، هذا إضافة للذاكرة الفصائلية التي لم تنس بعد سجون السلطة، بمعنى أنها لن تثق بأنها ستظل قادرة على ممارسة العمل السياسي دون سلاح..!

ربما يقال: ولماذا لا تستلم حماس كل السلطة إن فازت في أي انتخابات قادمة؟

قد يبدو السؤال منطقياً، فإن كانت الأطراف المنقسمة غير قادرة على الوصول لاتفاق فيما بينها، فلماذا لا نحتكم للشعب؟ وهذا نظرياً منطق مقبول، لكنه عملياً مستحيل، ولن أستخدم أقل من لفظة مستحيل، حيث لا نعرف أولاً في منطقتنا العربية أي تداول سلمي للسلطة، ثم لا يمكن لسلطة محكومة باتفاقيات دولية، أن تقودها حركة لا تعترف بهذه الاتفاقيات، إلا إن غيّرت هذه الحركة جلدها كله، بل وما هو تحت الجلد، وهذا ما لا يعترف به أحد.

النتيحة:

لن تقبل السلطة غزة بسلاحها، ولن تسلم حماس والفصائل سلاحها للسلطة، ولن تكون هناك سلطة تقودها حماس، فكيف يمكن تصور أي شكل للمصالحة يتجاهل كل هذه الحقائق؟

أخشى ما أخشاه أننا اعتلينا شجرة يا عالِم متى نستطيع النزول عنها.

يبقى الأمل في أن يعثر الفلسطينيون على شكل لا أعرفه، ولا أستطيع حتى اللحظة تخيله، يمكن له أن يفتح آفاقاً لما نسميه " المصالحة".

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo