ديجيتال استعمار

جنود اسرائيليون يراقبون مواقع التواصل الاجتماعي
جنود اسرائيليون يراقبون مواقع التواصل الاجتماعي

عرف العالم تاريخياً أشكالا عديدة من أشكال الاستعمار، من العسكري المباشر الى الاقتصادي والثقافي والتجاري وغيره، وكأحد تجليات الاستعمار وتطور النظام الرأسمالي العالمي، جاءت خلال العقود الماضية مرحلة العولمة التي قلصت حجم العالم المترامي الأطراف ليصبح معها قرية صغيرة وفق المصطلح الدارج، وفي خضم هذه العملية وكأحد تبعاتها جاءت التطورات التكنولوجية المتعاظمة السرعة لتعزز مساحات ومنافذ الهيمنة الاستعمارية على العالم.

مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي التي اقتحمت حياتنا بقوة في السنوات العشر الماضية، وجذبتنا لما فيها من مميزات عديدة، ايجابية وسلبية، كما ينجذب العاشق الى عشيقته، دون تمحيص بالغالب، في تبعات هذا الانجذاب، فاطاحت بنا بين أحضانها اعتقاداً منا بأننا قادرون على الاستفادة من بريق فضائها، دون الغرق في وحلها وتقييد انفسنا بكل ما لدينا من تفاصيل حياة، اضحت خاضعة تماماً لها.

وتعززت تبعيتنا لهذه المواقع والمنصات بالتزامن مع أحداث ( الربيع العربي ) حين اعتقدنا أن هذه المواقع لعبت دوراً ( ثورياً ) حاسماً في الحراك العربي عموماً، وعلى المستوى القطري خاصة، وظهر الأشخاص الأكثر اجادة لاستخدام هذه المواقع ومعرفة ممكناتها، كقادة لهذه الحراكات، وأصبحت عمق المعرفة واجادة الاستخدام وكأنها أحد سمات القائد الثوري الناجح، وبرزت ظاهرة الحراكات كبديل عن الأحزاب والقوى المنظمة، وصار مصطلح الناشط بديل عن المناضل، والمؤثر بديل عن القائد، وتحول النضال من المجابهة الميدانية الى تغريدات وبوستات في الواقع الافتراضي، وصارت الحملة الالكترونية بديلا للمظاهرة، وحل الهاشتاغ مكان الشعار، وأضحى الترند مقياساً للهزيمة والانتصار، وتحولت الأرض من جوهر للصراع الى مساحة على شاشة الهاتف النقال.

ورغم الممكنات الواسعة التي تتيحها لنا هذه الوسائل التي مزجت بين التكنولوجيا واستخدام التركيب الاجتماعي والنفسي للبشر، وتركيبة كل مجتمع على حدة، وفق سماته ومميزاته، الا أن سياسات هذه المواقع واداراتها، كجزء من المنظومة الرأسمالية الاستعمارية كان باعها أطول في تجيير هذا الفضاء لأهداف استعمارية، من بينها تعزيز الاحتلال الاسرائيلي وغرس اقدامه بشكل اعمق في الأرض الفلسطينية والعربية، وتجلى ذلك بوضوح في تعامل هذه الادارات مع المضامين ذات العلاقة بالصراع العربي – الصهيوني، فهي من جهة فتحت فضاءها على مصراعيه أمام العنصرية والتحريض الاسرائيلي ضد العرب والفلسطينيين، ومن جهة أخرى تبطش بالمحتوى الفلسطيني خاصة وتستخدم اجراءاتها التقييدية المتعددة، من شطب حسابات أو توقيفها لفترات محددة أو حذف بعض المضامين أو تقييد بعض الانشطو الممكنة في هذا الفضاء، بما يشبه اجراءات المحاكم الصورية التي تصدر احكامها جزافاً بحق من تصنفهم مخالفين.

اقرأ أيضاً: ترشيح الشيخ وفتّوح لمواقع بالمنظمة: مآخذ شخصية أم جوهرية؟

هذا التشخيص تشكفه بوضوح قراءات التقارير السنوية للمؤسسات الحقوقية التي تعنى بمراقبة وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، ورصد وتقييم الحقوق الرقمية، عدى عن ما يمكن تلمسه من مستخدمي هذه الوسائل الذين طالت هذه الاجراءات اغلبهم، وخاصة من يحاولون منهم استخدام هذا الفضاء للعمل العام والتعبير عن آرائهم تجاه القضايا العامة.

وقد اشار التقرير السنوي لمركز (حملة – المركز العربي لتطوير الاعلام الاجتماعي) حول مؤشر العنصرية والتحريض على شبكات التواصل الاجتماعي الاسرائيلية خلال العام 2021، الى تضاعبف نسبة الخطاب التحريضي ضد العرب بثلاث مرات مقارنة مع العام الذي سبق، والى ازدياد بنسبة 8% لخطاب الكراهية ضد العرب، وهو ما يمثل رصد 620 ألف محادثة شملت خطاباً عنيفاً وتحريضياً تجاه الفلسطينيين والعرب.

هذه التوجهات العنصرية والعدوانية من المستوطنين تجاه الفلسطينيين، والتي انعكست أيضاً في صناديق الاقتراع في انتخابات (الكنيست) في آذار من العام الماضي، وتتجلى بوضوح في سياسات وممارسات حكومة الاحتلال، لا تلقى أي رد فعل دولي يذكر، وتمر عنها ادارات مواقع التواصل الاجتماعي مرور الكرام، وتتجاهل وجودها، لكن، وفي المقابل فان فان حجم الرقابة على المحتوى الفلسطيني زادت بشكل لافت، ووصلت الى مراجعة (بوستات) على صفحات موقع فيسبوك تعود لعام 2013، ما يشير الى مراجعة شاملة وبأثر رجعي لكل المضمون الفلسطيني، وهو ما يحتاج لجهود جيش الكتروني بأكمله، كما تم تطوير لوجريتمات الرقابة الرقمية التلقائية لتشمل كلمات ومصطلحات أكثر يحظر كتابتها.

ووفقاً للتقرير السنوي لمركز (حملة) فقد شهد العام 2021 تسجيل ما لا يقل عن 1033 انتهاك للحقوق الرقمية الفلسطينية عبر منصات التواصل الاجتماعي، تصدرت ارتكابها منصتي فيسبوك وانستغرام، اضافة الى توتير وتيك توك. وفي الشكل غير المنظور والذي يصعب احصاءه، فان متواليات النشر التلقائي المتسع قد تم تقييدها بحق المؤثرين الى حدود دنيا، خاصة خلال أحداث باب العمود والشيخ وجراح ومعركة (سيف القدس) وما تلاها.

من هنا يتضح بجلاء بأن المعايير المتبعة لدى ادارات هذه الموقع حول هوامش التعبير عن الرأي والموقف، تكيل بمكيالين، وانها تعمل بارادتها، أو نتيجة المتابعة والشراكة مع الجهات الاسرائيلية، ومنها الوحدة المعروفة باسم (الوحدة 8200)، على خدمة رواية الاحتلال والقوى الاستعمارية، وما يعزز ذلك هو وجود المقار الرئيسية لاغلب هذه المنصات والشركات التي تديرها، في قلب دار الاستعمار، الولايات المتحدة الأمريكية، ومعه يمكن اعتبار هذا نوعاً جديداً من الاستعمار، هو الاستعمار الرقمي، أو الديجيتال استعمار.

 

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo