اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية ..والاسطوانة المشروخة!!

محمود عباس
محمود عباس

(1) كسر الخطوط الحمراء

يبدو ان السلطة الفلسطينية كسرت الخطوط الحمراء التي فرضتها على نفسها ابان حكومة نتنياهو بشأن اللقاءات الرسمية مع الجانب الاسرائيلي, وتهاوت هذه الخطوط بعد اللقاء الاخير الذي جمع الرئيس الفلسطيني ابو مازن ووزير دولة الاحتلال غانتس في منزل الاخير في تل ابيب.

الانطباعات الفلسطينية بالعموم تراوحت بين الرفض والاستنكار وما بين الحيرة في فهم جدوى هذه اللقاءات , ويكفي ان القوى السياسية الفلسطينية- حتى المنخرطة في اطار منظمة التحرير, والتي تعتبر من الحلفاء التاريخيين لحركة فتح - عبرت عن موقفها الرافض لهذا اللقاءات واعتبرتها "طعنة في الظهر".

التفسيرات الفلسطينية الرسمية والقريبة من السلطة تقول ان اللقاءات تعبير عن الرغبة في كسر الجمود في العلاقات بين السلطة والحكومة الإسرائيلية بعد مغادرة نتنياهو للمشهد السياسي الاسرائيلي وتغيير الإدارة الأمريكية والتحول السلبي الكبير الذي صاحب القضية الفلسطينية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب, في المقابل فان هذه اللقاءات تعمل على تجميل صورة حكومة الاحتلال واخفاء جرائمها، وتروج لنوع من الوهم المضلل أن عملية السلام لازال فيها بقية من روح وان الامال معقودة عليها , في وقت تؤكد الحكومة الإسرائيلية، بصور قاطعة، أنه لا مكان لاي حديث عن مسار سياسي.

حكومة بينت, اليمينة المتشددة, التي لا تؤمن اصلا بوجود الشعب الفلسطيني وتطرح علينا رغبتها في تصفية القضية الفلسطينية  أصبحت في يوم وليلة كريمة تجاه السلطة الفلسطينية وتعلن عن مجموعة من الإجراءات والتسهيلات التي من شأنها أن "تساعد السلطة" على تجاوز أزمتها الاقتصادية، من خلال الوعود التي قدمها الوزير الإسرائيلي غانتس لعباس خلال لقائهما الاخير.

(2)  التقلب في العلاقة

العلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في فترة حكم نتنياهو وصلت الى درجة كبيرة من القطيعة, نظرا للموقف المتشدد الذي تبناه نتنياهو في رفض أي لقاء سياسي مع السلطة ورفضه الانخراط في أي شكل من اشكال المفاوضات معها , فضلا عن تباهيه بزيادة الاجراءات العدوانية في الاراضي الفلسطينية, وبالاخص الاستيطان ومصادرة الاراضي وتهجير المواطنين من مدينة القدس.

كما ان الزيارة تأتي بعد زيارات متتالية لرؤساء أجهزة استخبارات اميركية وبريطانية، لتعزيز السلطة ومنع انهيارها بعد تتابع الاستطلاعات - وحتى الانطباعات الشعبية - بانخفاض شعبيتها بعد اغتيال الناشط السياسي المعارض نزار بنات، وموجات القمع والاعتقالات السياسية التي شهدتها شوارع الضفة الغربية، وإلغاء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، والفشل في تحقيق المصالحة الداخلية.

كانت السلطة قد وصلت الى قناعة راسخة ان حكومة نتنياهو اليمينية ليست معنية بالحل السياسي ولا تعتبر السلطة شريكا لها, بل عملت على اضعافها وسحب صلاحياتها, لذا فانها اثرت ان تقطع حبال الوصال معها مع استمرار التنسيق الامني الذي شكل أحد الروابط القوية التي تجمع الطرفين. لكن الغريب هنا ان حكومة نفتالي بينت – الاكثر تشددا – وجدت لها نافذة مفتوحة من قبل السلطة ومساحة للزيارات المتبادلة , بالرغم من ان بينت اعلن رفضه مقابلة الرئيس عباس وأكد مرارا وتكرار انه يرفض الولوج في أي مسار سياسي مع السلطة , وان كل جهده لن يتجاوز تحسين الاوضاع الانسانية في الاراضي الفلسطينية.

(3)  أسباب عودة العلاقات

من الطبيعي ان تثير الزيارة سيلاً من الأسئلة, من حيث جدواها وتوقيتها والمتوقع منها. ربما تكون أهم الاسباب التي دفعت الرئيس عباس للقاء غانتس في منزله , ان عباس يؤمن- ومنذ انخراطه في العمل السياسي- باللقاءات مع الإسرائيليين, وانها مفيدة جدا في تحسين موقع السلطة, وانه يمكن التأثير بها على السياسة الإسرائيلية. وقد شجع عباس عددا من قيادات فتح على فتح قنوات مع الإسرائيليين, سواء كانوا وزراء او وزراء او مسئولين في الاحزاب .

اقرأ أيضاً: كاتب إسرائيلي: الاستيطان غباء استراتيجي

من الاسباب المهمة ادارة بايدن التي أدركت انها غير قادرة على تحريك الملف السياسي وفضلت ان تتحرك في مربع ما يسمى بالسلام الاقتصادي, رأت ان ما يساعدها في التحرك هو تنشيط العلاقة بين الطرفين حتى لو كانت شكلية, وهي قامت بدور  كبير في تشجيع الجانب الاسرائيلي على الالتقاء بالقيادات الفلسطينية.

في الجانب الاخر,  بينت الذي يتزعم المعارضة القوية للسلطة وتوجهاتها السياسية لم يعترض على زيارة بايدن, وربما اراد ارسال رسالة للامريكان والمجتمع الدولي انه "ليس متطرفا" وان ابوابه ليست مغلقة , رغم انه كان يؤكد ان هذه اللقاءات ليس لها علاقة بأي نشاط سياسي.

حكومة بينت تعتبر نفسها رابحة من وراء هذه اللقاءات , اذا أنها تمنحها صورة ايجابية خارجيا , وتهديء قليلا من احتجاج المشاركين في الائتلاف الحكومي من الوسط واليسار, كما انها ليست مضطرة لدفع ثمن سياسي.كما أن بينت يطمح من خلال «التسهيلات» المقدمة للسلطة الى حصر العلاقة بين الجانبين فقط في المجال الاقتصادي، كما أنه يعتقد أنها يمكن تشكل بادرة " حسن نية" لتخفيف حدة الاحتكاك بين حكومته والسلطة الفلسطينية.

كما ان حكومة بينت بتوافق مع قوى غربية مثل الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة ترى ان تعزيز السلطة يمكن ان يقف سدا منيعا في وجه تصاعد قوة حماس في الضفة الغربية, مما يشكل تهديدا على طرفي السلطة واسرائيل. لذا فان غانتس كرر في اكثر من مناسبة أن من اهداف اللقاءات هي اضعاف حركة حماس وتحجيم نشاطاتها.

(4) عبثية اللقاءات

مشكلة الرئيس عباس أنه لا يزال يؤمن لليوم بأنه يمكن ان تتولد دولة فلسطينية من خلال المفاوضات ويؤمن بأن (العنف) والمقاومة ,وحتى مجرد التلويح بالقوة, غير مجد, وان السلام والمفاوضات والضغط الناعم هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تأتي بنتيجة. الغريب والمستهجن  ان عباس يلتقي الاسرائيليين في ذروة الاجراءات الاسرائيلية العدوانية ضد الشعب الفلسطيني, خاصة في تسارع وتيرة الاستيطان وقتل الفلسطينيين على الحواجز العسكرية وزيادة هجمات المستوطنين على بيوت ومزارع الفلسطينيين في الضفة الغربية.

ما يعكسه هذا اللقاء, ان السلطة الفلسطينية حشرت نفسها في ممر اجباري لا يمكن الحيد عنه او التملص منه, وباتت تربت اوراقها ولقاءاتها ضمن هذا الممر الاجباري, الذي يرغم السلطة على التسليم بالواقع وعدم اظهار أي شكل من اشكال التمرد على نهج السلام الناعم.

ربما أراد عباس بهذه الزيارة يريد أن يخترق جدار الجمود السياسي أو أنه يريد أن يلفت انتباه المجتمع الدولي الى القضية الفلسطينية مرة أخرى, أو اثبات أنه ما زال قادرا على لعب دور سياسي، مهما كان شكله او مضمونه , خاصة بعد معركة سيف القدس التي أظهرت عجز السلطة في حماية شعبها.

قد يتصور ابو مازن أنه يستطيع تهديد حكومة بينت الجديدة, والقائمة على اغلبية هشة, بأن الفترة القادمة قد تشهد انفجاراً في الداخل الفلسطيني ما لم تتحرك المسيرة السياسية . وليست مصادفةً أن القيادي في حركة فتح والمقرب من ابو مازن حسين الشيخ، كتب في تغريدة له: "اللقاء هو تحدٍّ كبير، والفرصة الأخيرة قبل الانفجار والدخول في طريق مسدود، ومحاولة جدية جريئة لفتح مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية، ويضع حداً للممارسات التصعيدية ضد الشعب الفلسطيني".

لكن واضح ان هذه نوع من "النوم في العسل" و"كب القربة على هوى السحاب", كما يقول المثل الفلسطيني, لانه حكومة اسرائيل – بيمينها ويسارها- لم تطرح مرة واحدة قضية الشأن السياسي مع الفلسطينيين على طاولتها ولم تناقشه في لقاء لها مع الوفود  الاجنبية, بل ان ما اعتمدته هذه الحكومة هو ما يسمى ب" السلام الاقتصادي" الذي يعني بالضرورة الغاء المشهد السياسي الى الابد.

الخطورة تكمن في ان حكومة بينت نجحت في جر السلطة – رغما عنها- الى مربع السلام الاقتصادي من خلال هذه التسهيلات والوعود بتحسين الظروف الانسانية. ربما تعتبر هذه من اخطر القضايا الى تقود السلطة الى طريق ترى فيه القضية الفلسطينية وقد استبدلت بأجندة اقتصادية.

(5) استمرار مسلسل الاوهام

من المؤكد ان اللقاءات التي تعول عليها السلطة الفلسطينية لن تحرك ساكنا في الجمود السياسي وان تقدم للسلطة سوى تسهيلات صغيرة جدا لا ترقى الى مستوى احداث طفرة في الاقتصاد الفلسطيني المحكوم بأغلال الاحتلال.

ما غفل عنه عباس أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تعيش على كف عفريت, وأنها قد تسقط ما بين لحظة وانتباهتها لن تقدم له أي جديد، ولن تحقق له ما يتطلع اليه.

 ورغم أن الطرفين، يعلمان أن اللقاءات لن تؤدي إلى استئناف المفاوضات السياسية، الا أن كل طرف يمني نفسه بشيء من أجواء كسر الجمود في العلاقات الثنائية والتي  تجللت بالسلبية طيلة11 سنة لم يُعقد خلالها لقاء إسرائيلي – فلسطيني بهذا المستوى.

ان اللقاءات التي تعقدها السلطة –في السر والعلن- مع الجانب الاسرائيلي أملا في تحريك المياه الراكدة وتنشيط المفاوضات ما هو الا هو استمرار لمسلسل الأوهام والخيارات الخاسرة، كما انه يعكس فقدان السلطة التأثير على أي من السياسات المنتهجة من قبل الطرفين الامريكي والاسرائيلي، وفقدانها القدرة على تحديد مسارها السياسي, وما تقوم به ما هو الا نوع من المغامرات غير المحسوبة التي سرعان ما تكتشف انها سراب اخر .

ان هذه النتائج الكارثية التي دمغت مسار السلطة طوال ربع قرن لم يدفعها لإعادة تقييم مسارها ودراسة خياراتها, بل هناك ما يشبه العناد غير المبرر في السير في طريق محكوم عليه بالفشل.

الخطورة ان هذا النوع  اللقاءات يعزز من الشرخ الداخلي ويعمق من الانقسام الوطني , كونه يتعارض مع التوجه العام للقوى السياسية والمجتمعية التي ترى ان الاولوية هي لانهاء الانقسام وتجسيد الوحدة الوطنية , غير أن الرئيس عباس يصر على احتكار المسار والقرار السياسي مهما كانت الظروف, ويرى أنه الوحيد الذي يمكن ان يقدم حلولا عملية للقضية الفلسطينية, فيما ينظر الى باقي القوى السياسية أنها مجرد أرقام على الهامش.

هذه السياسة الخطيرة التي ينتهجها الرئيس الفلسطيني في نسج العلاقات مع الجانب الاسرائيلي لن تكون سوى اسطوانة مشروخة جرى التغني بها على مدى ربع قرن, ولم تجلب له الا مزيد من الخسارة ومزيدا من فقدان الامل في أفق سياسي حقيقي.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo