صراع السلطة مع الثقافة

الزي التراثي الفلسطيني
الزي التراثي الفلسطيني

كنت قد قرأت مقالاً بعنوان يشبه هذا، يتخذ من ابن المقفع نموذجاً على هذا الصراع، وكنت قبلها بسنوات كتبت شيئاً عن تدافع ثقافة السلطة مع سلطة الثقافة، حيث أظنهما في حالة من التنافس، والتدافع، بل والصراع الأبدي، فكل من السلطة والثقافة تسعى لأن تهيمن على حياة الناس، فالسلطة بطبيعتها تسعى لأن تكون المتحكم الأوحد في توجيه حياة محكوميها، ليس فقط السلطات الموسومة بالدكتاتورية، أو الشمولية، التي تظن أن من حقها، أو واجبها التدخل في أدق تفاصيل حياة المحكومين، حتى طريقتهم في المشي، واللبس، والأكل، ودخول الخلاء، وليس فقط ما يتعلق بقضايا الدولة والسياسة، بل إن السلطة في الدول الديمقراطية، التي تبدو فيها الحرية الفكرية، والحريات الفردية أساساً من أسس بنيان الدولة، لا تقبل أن تقف على الحياد التام، أيضاً ليس فقط في قضايا الدولة والسياسة، بل تسعى- وإن بطرق تختلف عن طرق الدول الدكتاتورية، والشمولية- إلى توجيه حركة الاجتماع الإنساني، بما يتوافق ورؤيتها الخاصة، حتى فيما يبدو وكأنه المساحة الواسعة المتاحة للحريات الفردية في الدول الديمقراطية لا تخل المسألة من توجيه خفي، أو حرية في الاتجاه الذي تريده السلطة، وليس هذا عيباً بالكلية، فما من سلطة إلا ويقع على عاتقها قيادة حركة الاجتماع الإنساني في اتجاه ما، لكن هذا أيضاً يعني أن السلطة، أي سلطة، تسعى لأن تسيطر، أو توجه حركة محكوميها في اتجاهات ترتضيها، ولتحقيق غاية كهذه تسعى السلطة لتخليق ثقافة، وتعميمها على المجتمع، يمكن تسميتها بثقافة السلطة، في محاولة لعدم الظهور في حالة تناقض مع الثقافة، أو ثقافة المجتمع.

الثقافة أيضاً لا تقبل بحصرها داخل المكتبات، أو في عقول المثقفين وحسب، إنما تسعى لأن تكون لها سلطة، سواء تمثلت هذه السلطة في الدولة، أو في سلطة أعلى حتى من الدولة، تفرض مقولاتها، وأدواتها على الدولة والمجتمع، وهي تناضل في كل الاتجاهات كي تقود حركة الدولة، حتى لو لم يهيمن رموزها على الدولة، لكنها لا تقبل بأقل من توجيه حركة المجتمع والدولة معاً.

اقرأ أيضاً: بدأت بالقدس.. كيف عبرنت دولة الاحتلال أسماء المدن والمواقع الفلسطينية؟

نحن إذن أمام سلطة تسعى لخلق ثقافة خاصة بها، وتعمل على جعلها أداة لقيادة الدولة والمجتمع، وأمام ثقافة تسعى لأن تكون لها سلطة على الدولة والمجتمع، وفي حالة كهذه يبدو مستحيلاً- إلا نادراً ربما- ألا تصطدم السلطة بالثقافة، وتحديداً إن كان في الثقافة ما لا يحقق قدرة السلطة على حكم محكوميها، أو يعرقلها بوجه من الوجوه.

سأتخذ من التاريخ الإسلامي نموذجاً على صراع السلطة مع الثقافة، ومحاولة السلطة خلق ثقافة بديلة لتسهيل قدرتها على التحكم في رعاياها.

شخصياً أزعم أن الإسلام في بداياته جاء بمشروع ثقافي قيمي، وليس بدولة،،، يتمثل هذا المشروع الثقافي في مجموعة من القيم التي من شأنها توجيه حركة الاجتماع الإنساني في اتجاهات معينة، أهم هذه القيم على الإطلاق يتمثل في شعار الإسلام الأول" لا إله إلا الله" حيث يمكن تقسيم هذا الشعار إلى جزأين، يبدأ الأول بالنفي، والثاني بالإثبات، أما النفي" لا إله" فهو ينفي بالكلية أي شكل من أشكال التأله، أصناماً كانت، أو حكاماً متألهين، أو حكاماً يقبضون على كل مفاصل الحياة الإنسانية، فجاء الشعار ليحرر الناس من عبادة العباد، فهو شعار تحرر بامتياز، ثم يكمل الشعار حصر الألوهية في الله الواحد الأحد، الذي لم يعين وكلاءً له في الأرض، فالحرية إذن هي أولى قيم الإسلام التي أراد غرسها في الوعي الإنساني، الحرية أولاً ثم الاختيار الحر لما نعبد، وما نؤمن به، حيث لا قيمة في الإسلام لدين يُكره الناس عليه.

العدالة، والمساواة، والمسئولية الفردية، ومحاسبة السلطة من قبل الجماهير، وسيادة القانون، ومنع استغلال السلطة، هذه الثقافة استطاعت أن تفرض نفسها على المجتمع والدولة، ولم يستطع الحكام مقاومتها، حتى لو أرادوا، ربما ساعد على ذلك طبيعة بيئة الجزيرة العربية التي نشأ فيها الإسلام، حيث لم تكن هناك دولة مركزية، وكان منسوب الحرية الذي يوفره غياب الدولة عاملاً مساعداً، ما أنتج حكاماً ومحكومين شديدي الحساسة تجاه تلك القيم التي جاء بها الإسلام، ويمكن هنا الاستشهاد بالموقف المنسوب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما سأل الناس: ما رأيكم لو مِلت برأسي إلى الدنيا هكذا، فأجاب أحدهم: إذن نقول بسيوفنا هكذا، في إشارة إلى قطع رأس عمر، إن مال إلى الدنيا، وكان هذا ينزل كالثلج على صدر عمر، الذي كان يحث الناس على مواجهة الحاكم" لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها" ولقد كان الإسلام قد جعل كلمة الحق عند سلطان جائر أفضل أنواع الجهاد.

فيما بعد، وتحديداً بعد الانقلاب الأموي، والذي نشأ وترعرع في بيئة عرفت الخضوع للحكام، والأباطرة، كبلاد الشام، لم تعد الثقافة التي جاء بها الإسلام مناسبة لطبيعة الحكم الجديد القائم على التوريث، والباحث عن ملذات السلطة، وأبهتها، ومنافعها، وما كان لهذا الانقلاب أن يواصل نجاحه، فيما لو بقيت سلطة الثقافة التي جاء بها الإسلام مهيمنة على حركة الاجتماع الإنساني، فكان لا بد للسلطة الجديدة أن تنتج بدورها ثقافة تساعدها على إحكام قبضتها على المحكومين، بديلاً عن سلطة الثقافة التي خضع لها الراشدون، فسعت السلطة لخلق ثقافتها بكل السبل الممكنة، واستخدمت لذلك طرقاً متنوعة، كالمبالغة في العنف الذي عالجت به الحركات الاحتجاجية، والتي خلقت ما يمكن تسميته بمفرداتنا الحديثة:" كيّاً للوعي"، ومن ثم استبدالاً لثقافة تقويم اعوجاج الحاكم، بثقافة التسليم للحاكم، واعتباره قدراً، أو جاء بقدر الله..!

لم تكتف السلطة الجديدة بالعنف، إنما دعمت ذلك بمقولات دينية جديدة نسبتها إلى النبي عليه السلام، تدفع المحكومين إلى الصبر على أذى الحاكم، حتى لو أخذ أموالهم، وجلد ظهورهم، وصار قيّماً على الدين والدنيا، وصار حتى المتغلب بقوة السيف شرعياً، وشيئاً فشيئاً استطاعت السلطة أن تخلق ثقافة تحمي وجودها، وتشرعن تسلطها، استبدلت بها سلطة الثقافة التي جاء بها الإسلام الأول.

الثقافة المهيمنة التي خلقتها السلطة لا بد وأن تنتج ردات فعل في الاتجاه المعاكس، تعبر عنها مقولات ثقافية جديدة، ستصطدم حتما بثقافة السلطة، وبالسلطة ذاتها، هذه المسألة حتمية، ما لم يتم تتغير أدوات النزاع، وتستبدل بأدوات سلمية، كما بات معروفاً في النظم الديمقراطية المعاصرة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo